الأربعاء، 18 مايو 2011

ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي حول رداء الدولة في اليمن - جامعة حضرموت المكلا 2006


غطاء الرأس: ملاحظات أولية في المعنى الاجتماعي المتغير

د. عبدالله علي الزلب


1. المعاني المرتبطة بالهوية في بعدها الثقافي/الحضاري:
إن التحولات الدراماتيكية التي يخضع لها المجتمع اليمني منذ نهاية الستينات على جميع المستويات ، وما ترتب على ذلك من انتشار الأيديولوجيات الجديدة ودخول التكنولوجيا الحديثة وما تحمله من أنماط حياتية جديدة على المجتمع ، قد دفعت بالبعض إلى الاعتقاد بأن ذلك من شأنه أن يهدد الثقافة اليمنية التقليدية وتماسك المجتمع كما حدث في بعض البلدان العربية .
وفي ضوء تلك المتغيرات، التي تزامنت مع ارتفاع كبير في دخل الفرد، طرح تساؤل ملح حول الهوية وهي مسألة جوهرية في السياق اليمني. فلم يعد الانتماء إلى القبيلة أو العائلة أو المنطقة كافياً، وأصبحت الحاجة ملحة في الوقت الراهن إلى تحديد هوية الإنسان اليمني المعاصر إزاء الثقافات العربية والجنسيات الأخرى وفي اتجاه إيجابي. وأصبح اليمنيون مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالتوفيق بين القديم والجديد، ومواجهة تحديات التغيير، لأن رفض الجديد والبقاء في العزلة السابقة لم يكن بيدهم، فالعالم من حولهم يتدخل في اختيارات الإنسان اليمني وفي الكثير من تفاصيل حياته اليومية. فكانت مسألة تحديد تصورهم لثقافتهم التقليدية وتضمينها معاني جديدة أحد الطرق المتاحة لمواجهة تحديات التغيير.
في هذا الإطار يتنزل موضوع المعنى الاجتماعي للباس عموما وغطاء الرأس على وجه الخصوص. ولما كان ارتداء اللباس وتنوعه فعلاً متأصلاً في ثقافة المجتمع اليمني التقليدية ولا يشترك فيه مع ثقافات عربية أخرى، فإنه انتشر بعد ذلك بمعان جديدة لمواجهة تحديات التغيير. فلم يعد مثلا ارتداء الحجاب بالنسبة للمرأة اليوم يعبر عن هويتها اليمنية بقدر ما صار يحمل دلالات سياسية ودينية – مذهبية- أكثر من كونه مظهراً سلوكياً مميزاً لليمن. أما فيما يتعلق بملابس الرجال فانها إلى جانب احتفظت في بعض المناطق ولدى أوساط اجتماعية محددة بمعناها الاجتماعي ودلالاتها الثقافية القديمة، إلا انها في نفس الوقت اكتسبت معان جديدة، اجتماعية وسياسية وثقافية وحتى اقتصادية.. ويمكن الاستدلال في ذلك بما ذكرته الدكتوره رؤوفة حسن من التطور الحاصل بين الدلالة المكانية والدلالة الزمانية لغطاء الرأس في كل من  المدينة والريف وضربت مثال على ذلك قطعتين من اللباس "تأتي "الستارة"، كقطعة ملابس خاصة بنساء المدن الجبليات المتحضرات في الأربعينات، ثم التقليديات والفقيرات في التسعينات. كما تأتي العمامة البيضاء التي كانت رمزا للارستقراطية الحاكمة في الأربعينات، وصارت رداء يعبر عن وظيفة  القضاة التقليديين أو زي شعبي يلبسه العرسان في مناسبات الزواج منذ منتصف الثمانينات"[1].
هذا التطور لم ينحصر على المجال الاجتماعي الآنف الذكر لان المفاهيم المرتبطة بغطاء الوجه للنساء ثم غطاء الرأس للنساء شهدت تطورا آخر في المجالين السياسي والثقافي عكست التحولات السياسية والثقافية في المجتمع اليمني وعلى الصعيد الإقليمي والدولي. ومثال على ذلك الدلالات المرتبطة ب"الحجاب"، رغم اختلاف شكله وطريقة ارتداءه من مكان إلى آخر، كغطاء للرأس والوجه بالنسبة للنساء ففي فترة الخمسينات والستينات "المرتبطة بحركات التحرر الوطني من الاستعمار كانت حركة خلع الشيذر "الحجاب" للنساء، رمز لخلع التخلف والقيود وهضم الحقوق" ثم اكتسب المفهوم وفعل الارتداء للحجاب دلالات سياسية ودينية – مذهبية- مختلفة من مجتمع إلى آخر مع ظهور الحركات الإسلامية السياسية في العالم العربي. فأصبح "رمز للمقاومة للأنظمة السياسية المتعاونة مع الغرب وكرفض للشكل الذي قدمه الغرب لمعنى الحجاب كأداة قهر واضطهاد تحتاج إلى الخلاص منها"[2] في إطار بعض المجتمعات والأطر السياسية وشكل رمزا للهوية الدينية/ السياسية في مكان آخر ومناسبات أخرى.
وهكذا بدأ اللباس يحمل مضامين جديدة في الثقافة اليمنية المعاصرة. فهو فعل له مرجعيته الرمزية التي يمكن أن يستند إليها أي يمني من أية فئة أو شريحة اجتماعية لتعزيز هويته الثقافية. ويفيد اللباس كذكل كرمز في الحياة الاجتماعية في أنه يجسد أحد الحقائق المجردة العقلية في المجتمع ويجعلها ملموسة ومرئية. وبذلك فإنه يسهم في استدعاء شعور الانتماء إلى المجموعة الوطنية والمحافظة عليها. فالانتماء لقيم معينة يرمز بحد ذاته، بنظر الفرد وبنظر العناصر الفاعلة الأخرى، إلى مشاركته في هذه الجماعة أو تلك وفي هذا المجتمع أو ذاك[3]. 
إن اللجوء او العودة إلى ارتداء اللباس التقليدي والإقبال الكبير عليه في السنوات الأخيرة يأتي في إطار ارتفاع الطلب الاجتماعي للمعنى المفقود والبحث عن " هوية " تتوفر في إحياء وتجديد التقاليد والطقوس وخاصة عبر "التبني" الجماعي للحنين إلى الماضي في ظل تعدد المرجعيات الثقافية التي ظهرت في المجتمع اليمني ولمواجهة التحولات المتسارعة في نظام التراتب الاجتماعي المتأثرة بالتحولات السياسية والاقتصادية.
        وهذه المعاني الجديدة التي تتضمنها لغة غطاء الرأس لم تكن وليدة محدثات راهنة ومؤقتة، بل كانت نتيجة صيرورة تاريخية وتدخل عوامل عديدة، خارجية وداخلية ، سياسية واقتصادية وتاريخية من أهمها ارتباط انتشار ارتداء الملابس التقليدية والمحافظة عليها بما فيها أغطية الرأس في جميع مناطق اليمن في السنوات القليلة الماضية بمحاولات فرض أنماط ثقافية جديدة على الثقافة التقليدية اليمنية، ولذلك فإن دلالات اللباس التقليدي واستمراريته يمكن أن تفسر كموقف جماعي في مواجهة اليمنيين للتغيرات الجوهرية الحاصلة في هذه الفترة. فاليمنيون بمختلف إمكانياتهم المادية ومراكزهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية والقبلية يمكنهم اللجوء إلى اللباس كسلوك يرمز إلى معنى الانتماء للمجتمع والمشاركة الاجتماعية في وقت واحد. إن اليمني عندما يذهب إلى أي فضاء اجتماعي او تجمع داخل بلاده أو أي مكان في العالم ، إذا ما أتيح له ذلك ، فأنه يعبر عن هويته وانتماءه الاجتماعي للمجتمع الكبير او المحلي او للقبيلة او الشريحة الاجتماعية. فالخطاب السائد هنا هو خطاب الانتماء، أولا إلى هوية وطنية واحدة وثانيا إلى جماعة اجتماعية معينة سواء كانت فئة او شريحة و قبيلة .  

2. المعاني المرتبطة بالتمايز الاجتماعي في بعدها السوسيولوجي:
من السمات المميزة للثقافة اليمنية هي المدى العميق لتحديد الشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة وتمييزها وتصنيفها مكانياً، فالتمثل المادي للوضع الاجتماعي بالطبع يوجد في كل الثقافات، لكنه في اليمن سائد وبالغ الأهمية. ولذلك نجد أن اليمنيين متقبلون لفكرة تنظيم أنفسهم من حيث المكان وكذا العلاقات بين الأفراد والجماعات، وهناك وعي بعملية التفاعل الاجتماعي، أي أنهم يدركون مع من يتفاعلون مادياً وأين وكيف، ويتعودون منذ سن مبكرة على مبدأ تنظيم أنفسهم وسلوكياتهم الشخصية في الواقع العملي وفقا لمكانة كل شخص في المجتمع.  
        وقد كشف (جيرهولم) في دراسته لفضاءات السوق والمسجد والمفرج في مناخه أن التفاعل في السوق والمفرج يتجه نحو تعزيز التراتب الاجتماعي وإعادة إنتاجه. ويتم تجسيد نظام المكانة في كل مظاهر الحياة اليومية وبدرجة عالية من الاتساق بحيث يسلم بحتميته جدلاً بالرغم من وجود ملامح محدودة له [4].  
        وفي أحياء صنعاء القديمة يتم إسقاط التصورات المحلية للتراتب الاجتماعي بوضوح في تنظيم المدينة وخاصة في حجم المنازل ، حيث تعكس المنازل ذات الطوابق المتعددة النظام الاجتماعي الذي كان سائدا وما يزال، فالمنازل ذات الطوابق المتعددة التي تتجاوز الأربعة طوابق غالباً ما تكون للسادة أو القضاة أو كبار التجار، والمنازل ذات الأربعة والثلاثة طوابق للموظفين و"العرب" المنحدرون في الأساس من أصول قبلية، الذين يحتلون المراتب الوسطى في نظام التراتب الاجتماعي، ومادون الثلاثة الطوابق "لناقصي الأصل" من المزاينة والقشامين والخدم وغيرهم . وعليه فإن الاختلافات في الموقع التراتبي الاجتماعي تمثلها الاختلافات في درجة ارتفاع المنزل. وهنا تمارس الثقافة المشروعة، بتعبير بيير بورديو، نوعا من القمع الرمزي وتجبر الخدم والمزاينة على النظر إلى الأعلى تطلعاً نحو " أسيادهم ". فالرسالة التي تنقلها الشفرة المرئية هي أن أولئك الذين يسكنون في المنازل العالية والذين يجلسون في رأس المجلس - علاو المكان-  في جلسات القات، هم أولئك الذين يشغلون المراتب الأولى في نظام التراتب الاجتماعي. وفي السائد في ميكانيزمات الحراك الاجتماعي ان المغلوب والأقل مرتبة عادة ما يتطلع ويحاول جاهدا تقليد الغالب والأعلى مرتبة منه في الكثير من سلوكه ومظهره إذا ما سنحت له الفرصة كتعبير عن استحقاق له في الحراك الاجتماعي لتجاوز المرتبة الدنيا التي يحتلها والارتقاء إلى مرتبة أعلى في إطار المكانة الجديدة التي اكتسبها في المجتمع نتيجة لمتغيرات معينة. هذه الرؤية للعلاقة بين الشرائح والقوى الاجتماعية المختلفة عبر عنها العلامة ابن خلدون في إطار تحليله للصراعات الدائرة في عصره على الحكم بقوله: "أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده[5].
في هذا السياق تندرج دراسة غطاء الرأس وطرق ارتدائه واشكالها المتعددة والتي من شأنها أن توضح معنى الممارسة الإنسانية لليمني وتحيلنا إلى البنى العميقة للثقافة اليمنية. ولهذا الفعل الاجتماعي أهمية جوهرية بوصفه ثقافة حضرية وقبلية تقليدية في نفس الوقت، ساهم في الترميز الثقافي للباس اليمني في أبعاده الاجتماعية وخصوصيته الثقافية. فالالتزام بنوع محدد من أغطية الرأس وبطريقة مميزة لارتدائها والدقة التامة التي يتقيد بها الناس في هذا المظهر المادي للسلوك الانساني، يتضمن معاني عميقة في الثقافة اليمنية ويعبر بقوة عن نظام التراتب الاجتماعي السائد في المجتمع اليمني. ويمكن اعتماده كأحد مظاهر معايير التمايز الرمزية ذات البعد المادي الأكثر بروزاً في الفضاءات الاجتماعية المختلفة كالمسجد والسوق والمجلس القاتي، حيث يعتمد نوع الغطاء وشكله ولونه وطريقة ارتداءه على محددات خمس على الاقل هي:
1.     النوع الاجتماعي، (إمرأة/رجل ، أم / أب..)
2.     المكانة الاجتماعية،
3.     السن،
4.      المكانة العلمية او المستوى التعليمي،
5.     المنطقة الجغرافية ( ريف /مدينة ، صحراء/ جبل..الخ)
          وقد لاحظ فيبلن Veblen  أنه " عندما تتحول الأشياء المادية وترتفع إلى مستويات اعتبارية وتصبح رموزاً ثقافية للمكانة والجاه ويتم استثمارها كقيم مالية، فإن الإدراك بفطرية خصائصها وتقدير قيمتها يكون أكثر عمقاً "[6]. وهنا نجد أن غطاء الرأس باختلاف أنواعه واشكاله وألوانه، في مظهره المادي وتداعياته وتأثيراته، صار مادة مهمة تحمل قيما ثقافية ومادية كبيرة في إطار الثقافة اليمنية المعاصرة.  
ويتم تقويم غطاء الرأس حسب أنواعه المختلفة وألوانه وطريقة ارتداءه، ويرتبط هذا التقويم المادي بالتقويم الاجتماعي للمرتدي له ، فنوع غطاء الرأس، عمامة او صماطه او دسمان او كوفيه، يشكل أحد المظاهر الرمزية للانتماء الاجتماعي. وقد كان في حد ذاته في الماضي يعد مؤشراً للمكانة الاجتماعية والمستوى المادي للانسان. وقد ظهرت مؤخرا مواد استهلاكية أخرى تشترك مع اللباس في كونها تمثل تعبيرات اجتماعية، تجسد بدورها مظاهر التمايز الاجتماعي، كما تعتبر مؤشرات لمطامح اجتماعية في المجتمعات ذات التراتب الطبقي،  ونذكر من هذه المواد السيارات [7].
وكان يمكن أن يشكل الاكتساح الكبير للمواد المستوردة ، عاملاً أساسياً في التقليل من أهمية انتشار الملابس التقليدية ومنها أغطية الرأس، باعتبارها من وجهة نظر بعض الحداثيين عادة تقليدية قديمة و"معيقة " للتقدم ومتعارضة مع  أشكال الحداثة بالمعنى الغربي، لكن ما حدث كان عكس ذلك، وخلافا ما ذهبت إليه الدكتوره رؤوفة حسن شهد العقدين الأخيرين بالتحديد تطوراً وانتشارا مهما  في استعمال اللباس التقليدي على وجه العموم. ويرجع ذلك إلى تضمن هذا السلوك الاجتماعي رسائل رمزية ذات دلالة حول الوضع المالي للمستهلك ومكانته الاجتماعية والتي لا تظهر من خلال الممتلكات الأخرى وأشكال الإنفاق المختلفة.
إذن يقوم هذا الفعل الاجتماعي بدور الوسيط الإعلامي. وقد تشير الممتلكات الثمينة إلى معان عديدة عن مالكها، ولكن مهما بلغت مضامين أسلحة الكلاشينكوف والخناجر " الجنابي " وسيارات" الصالون " اليابانية... من ثراء وتعقيد ، إلا أن الرسالة التي تقوم بإيصالها محدودة في الزمان وفي المكان مقارنة بالملابس التقليدية عموما وبأغطية الرأس والوجه على وجه الخصوص. إن التغيرات الاقتصادية الحديثة خلقت شكوكاً حول المستوى الاقتصادي والثروة كمؤشر على المكانة الاجتماعية، وظل غطاء الرأس، سوسيولوجيا، مؤشراً جلياً وثابتا للمكانة الاجتماعية الحقيقية. وبما أن النفوذ والهيبة وقواعد السلوك هي مكاسب اجتماعية، فإنه  غالبا ما يسعى الأفراد، من خلال ارتدائهم لملابس معينة سواء عكست انتماءهم الاجتماعية وعبرت عن هويتهم الثقافية او كانت تقليدا لثقافة الشرائح او الفئات الاجتماعية الأعلى مرتبة من مراتبهم ، إلى زيادة رأسمالهم الرمزي بالعمل على تأكيد نفوذهم وتكريس التمايز عن الآخرين ومحاولة استثمار منافع النفوذ بمراكمتها من أجل ذاتها وكذلك من أجل المصالح الناشئة عنها. وإذا ما تبين للآخرين وجود مبالغة في الإنفاق على الملابس او ارتداء ما لايناسب الشخص اجتماعيا فإن ذلك ينعكس عليه سلباً، الأمر الذي يفقده مكانته داخل جماعته الاجتماعية ويقلل م هيبته ووجاهته باعتبار أنه يحاول أن يظهر بصورة غير حقيقية لإمكانياته المالية.
وهكذا نجد أن لغة الملابس تسهم بفاعلية في تكريس التمايز الاجتماعي، فتعمل على زيادة رأسمال الأغنياء الثقافي والمادي، وتعزز سيطرتهم، وتعمق، في نفس الوقت، فقر الفقراء، وبذلك تساهم هذه الثقافة بصور عديدة في إعادة إنتاج الثقافة السائدة.  
         وتتغير طريقة ارتداء اغطية الرأس وشكلها ونوعها أحيانا نتيجة لظروف معيّنة ، فالفقراء من القضاة والسادة مثلاً، لا يلبسون نفس الأغطية التي يضعها أغنياء نفس الشريحة او تلك التي أصبح يرتديها الصاعدون الجدد في سلم التراتب الاجتماعي من مشائخ القبائل أو كبار التجار أو المسئولين في الدولة. وهذا الأمر يؤكد التمشي القائل بإن المكانة المرموقة لم تعد تكتسب في الوقت الراهن بصفة آلية وفقاُ للنسب العائلي أو القرابة ، على الرغم أن الأصل والقرابة القوية ، فضلا عن التعليم وقرابة الزواج الصحيحة والأموال الموروثة والمكتسبة قد تكون عناصر أساسية للوصول إليها. فالناس عندما يسعون وراء مصالحهم وزيادة رأس مالهم المادي لا يهملون رأس المال الثقافي والاجتماعي. ورغم جهود الأغنياء الجدد من ناقصي الأصل ، كالجزارين والدباغين في المدن الصغيرة ومحاولاتهم زيادة رأس مالهم الثقافي، إلا أنهم لا يزالوا محصورين بمستواهم الاجتماعي الحالي مهما بلغوا من الثراء أو المستوى العلمي أو الورع .  وينعكس هذا ويتعزز أثناء المناسبات الاجتماعية في لباسهم التقليدي بصفة عامة. إن واقع لغة اللباس، في الكثير من المناطق مثل صنعاء القديمة وسيئون وغيرها، والتي تعكس النموذج التقليدي للتراتب الاجتماعي المبني على أساس النسب العائلي والمنصب، هذا الواقع لا يزال يرتبط ارتباطاً مباشراً بحقيقة أن النخب التقليدية من الشيوخ والسادة والقضاة لا تزال تصارع من أجل الاحتفاظ بترفعها واحتكارها للسلطة والتأثير.
من ناحية أخرى ، وفي الإطار الذي يجمع أفراد من نفس الشريحة أو الفئة ، أو من عائلة واحدة ، فان نوع غطاء الرأس وطريقة ارتداءه وشكله يعكس ، إلى حد ما ، نظام تراتب اجتماعي داخلي يرتكز على أساس السن ، وامتلاك الثروة ، وكذا المنصب السياسي. ويتضمن فعل ارتداء أغطية الرأس، من قبل النساء والرجال، مظاهر اجتماعية ورمزية، مثلها مثل جميع النشاطات الإنسانية العامة، إذ يحدث هذا الفعل تفاعلاً اجتماعياً علنياً من ناحية، وتواصلاً رمزياً مكثفاً من ناحية أخرى. ولهذا يمكن القول أن أغطية الرأس ما هي إلا تعبيرات اجتماعية للواقع الملموس وترتبط بصلة وثيقة بالعلاقات الاجتماعية وما يحدث داخلها من سلوكات وتفاعلات. كما تقوم بإعادة إنتاج الثقافة التقليدية.   



[1] د. رؤوفة حسن الشرقي، "الإطار المفاهيمي: غطاء الرأس في المجال العام بين الثقافي والديني"، ورقة خلفية قدمت للندوة الخاصة برداء الدولة، المكلا، 28-29 مارس 2006.
[2] نفس المرجع السابق
[3] Rocher G. , op.cit. , p. 114.
[4]  Gerholm, T. , op.cit. p.188 .
[5] مقدمة ابن خلدون، الفصل الثالث والعشرون، دار القلم ، بيروت، لبنان، 1978م ص 147
Veblen, T. , The Theory of the the Leisure Class : an Economic Study of Institutions , Unwin Books , London 1970 ,  p.79.
[7]   يعتبر امتلاك السيارات من الابعاد الملفتة للاهتمام التي تبين العلاقة بين استهلاك الكماليات والقيم الثقافية . وإن كانت السيارة إحدى علامات الاستهلاك الحديث إلا أنها تأخذ دلالات أخرى في تصور اليمني . فقد أخذ هذا النمط من الاستهلاك للسيارات أبعاداً اجتماعية ، فارتبط استهلاك نوع من السيارات اليابانية "الهيلوكس" برجال القبائل والمزارعين وسكان الريف عموماً . كما ارتبط استعمال السيارات من نوع " التويوتا" ، ذات الدفع بأربع عجلات ، الموصوفة في اليمن "بالصالون" بشيوخ القبائل والمسئولين الكبار في الدولة . فامتلاك هذا النوع من السيارات له دلالات عديدة ولذلك يسخر سكان المدينة من هذا النوع من الاستهلاك فيلقبون السيارة الصالون بليلى علوي نسبة إلى الممثلة المصرية  المعروفة ؟؟ ويتضمن هذا التشبيه معان تتعلق بالنزاهة والشرف .
     
- انظر في تفصيل ذلك مقالة لامبير بعنوان :
  Lambert, J., Consumation de Mass et tradition à Sana’a  CFEY , Sana’a hors les murs, p.  89

 


النساء والمشاركة السياسية والوسيط الميدياتيكي

د. عبدالله على الزلب 


ملاحظة تمهيدية :
النموذج التقليدي لفهم عملية التواصل والمرتكز على العناصر الكلاسيكية المتمثلة في المصدر والقناة والرسالة والمتقبل لم يعد من الناحية الإبستمولوجية – معرفيا إن جاز التعبير- صالحا.  فالنظرة الثاقبة لما ينشر من مقاربات ورؤى نظرية في حقل التواصل تبين بجلاء أن عملية التواصل لم تدرس في نهاية الأمر إلا من منطلقات جزئية ومنعزلة، هذا فضلا عن الاستهلاك السلبي لنظريات أنتجت في فضاءات ثقافية مغايرة لثقافتنا ...
إن التطور النظري الحاصل في حقل علوم الاتصال وما نعايشه في حياتنا اليومية أدى إلى إنتاج وطرح إشكاليات جديدة لا يمكن حلها إلا بالرجوع إلى والاعتماد على مقاربات شاملة تأخذ بعين الاعتبار تعقد العناصر الفاعلة في عملية التواصل من ووضعها الديناميكي والمتغير من جهة أخرى..  وبناء على ما سبق ستقارب هذه الورقة موضوع العلاقة بين المرأة والانتخابات والإعلام من زاوية تواصلية بين ثلاثة عناصر أساسية هي الرجال والنساء والوسيط الميدياتيكي أو الاتصالي ...

1. مقدمة :
إن الحديث عن المرأة والإعلام ينبغي أن ينطلق من الإيمان الراسخ بأن الإعلام بات محرك الحياة في جميع المجالات وأصبح مقياسا لتقدم الشعوب، وأن العمل الإعلامي لم يكن ولا يمكن أن يكون يوما من الأيام ميزة أو حكرا على جنس بشري بعينه. وفي ظل التحولات المتسارعة اليوم نحو صياغة نظام دولي جديد، فإن المجتمع اليمني بحاجة إلى تطور إيجابي فاعل وليس تطورا شكليا لمجرد محاكاة ثقافة "الآخر" المهيمنة، سواء كان ذلك "الآخر" رجلا فيما يتعلق بالمرأة أم كان آخرا غربيا أو شرقيا فيما يتعلق بالإنسان العربي، فالتطور الفاعل والإيجابي هو ذلك النابع من الذات والمتفاعل إيجابيا مع الآخر ومشاركا له.
ولما كان وجود النساء لا ينفصل عن وجود الرجال، مثلما لا يمكن لوجود الرجال أن يكون منفصلا عن وجود النساء، فإن المسؤولية مشتركة بين الجنسين، أساسها الحقوق والواجبات وآليات عملها الاجتهاد والتواصل والتكامل.. وتندرج مشاركة النساء في العمل السياسي في هذا الإطار، حيث لا يمكن الادعاء بوجود ديمقراطية بدون مشاركة حقيقية من النساء  ... فالعمل السياسي والإعلامي فعل إنساني لا يتم اكتسابهما بيولوجيا بالوراثة ولا تختص بنوع اجتماعي بعينه... فهما مرتبطان بعوامل شتى، اجتماعية وثقافية ومهنية ونفسية...الخ
إن واقع مشاركة المرأة في اليمن ليس أسوأ من كثير من البلدان العربية والنامية وحتى المتقدمة. فالتمثيل النسائي في برلمانات العالم على سبيل المثال لا يزال ضعيفا ولا يزيد عن 14.7 % ، حسب إفادة الإتحاد البرلماني الدولي.  وتأتي الدول العربية في ذيل لائحة التمثيل النسائي في برلمانات العالم بنسبة لا تتجاوز 4.7%. ففي الكويت والإمارات العربية المتحدة وجيبوتي لا توجد أي امرأة ممثلة في البرلمان. وهناك امرأتان في اليمن وثلاث في لبنان والمغرب وأربع في الأردن.  
وهذا الواقع هو نتاج لعوامل عديدة وتداخل الحقول على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي ... وعليه فإن مشاركة النساء اليمنيات في المجال السياسي تتأثر بشكل مباشر وغير مباشر بعلاقات اليمن الدولية مثلما تتأثر بالنظام التعليمي السائد ونسبة الأمية و بالوضع الاقتصادي ونسبة البطالة ومستوى الفقر ... فضلا عن القيم الاجتماعية السائدة ...

في واقع المشاركة النسائية في المجال السياسي هناك ،نظريا، بنية مؤسسية وتشريعية مناسبة وقد تتجاوز انتظارات النساء وواقعهن . كما يتوفر القرار السياسي الداعم لمشاركة النساء في العمل السياسي ، إلا ان الأمر يختلف على مستوى الواقع المعاش والممارسة اليومية التي تشير إلى تدني مستوى المشاركة السياسية للنساء في اليمن وانخفاض مستوى الوعي بأهميتها .. فلماذا؟ وما هو الدور الذي يلعبه الوسيط الميدياتيكي في هذه المسألة ؟  
إن دور الوسيط الميدياتيكي عامة ووسائل الإعلام الجماهيرية المعروفة فيما يتعلق بالمشاركة السياسية للنساء في اليمن أكثر تعقيدا مما يمكن تصوره. ويمكن مقاربة الموضوع من أكثر من زاوية .. إلا أننا في هذه الورقة سنحاول مقاربة الموضوع من منظور علم الاجتماع الاتصالي.  
وستعمد هذه الورقة إلى إثارة التساؤلات أكثر مما ستبحث عن إجابات نتوقع أن نجد بعضها في الأوراق الأخرى والمداخلات خلال الندوة. ونهدف من وراء ذلك تجنب التكرار وتكريس تقليد في الحوار البناء والتواصل الإيجابي المثمر في اتجاهين وبالتالي الخروج بحصيلة إيجابية من أعمال الندوة عبر تنشيط الحوار وإثراءه  وتجاوز الطرق المعتادة في الندوات المعتمدة على إلقاء المحاضرات أو الأوراق من قبل عدد محدد من المشاركين تباعا ومحاصرة بقية الحاضرين في الأوقات المحددة للنقاش والتعقيب إن وجدت أصلا...

2. الخطاب الإعلامي في علاقته بالنساء: المراجع والمنطلقات
تساؤل أول نطرحه هنا بخصوص مرامي وتوجه الخطاب الإعلامي في وسائل الإعلام اليمنية في تناوله للشأن النسوي عامة ولموضوع المشاركة السياسية للنساء بشكل خاص، إلى أي حد يمكن المجازفة بالقول أن الخطاب موضوعي ، وبالنسبة لمن؟ ومن خلال أية مقاييس يمكن تقييم هذه الموضوعية؟
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن مفهوم الموضوعية هو مفهوم إشكالي بطبيعته. فنحن كأفراد ، نساء ورجال ، وجماعات ومجتمعات محلية لا تجمعنا أنظمة مرجعية واحدة ، رغم ما يجمعنا من السمات الثقافية والتاريخية ، فاختلافاتنا عائدة بالأساس إلى التجارب النفسية والاجتماعية والثقافية لكل منا ...
ومن هذا المنطلق فإن ما تعتبره مجموعة ثقافية ما معلومة موضوعية وحقيقية هي بالنسبة لمجموعة ثانية معلومة متحيزة وموجهة .. فالمعلومة قبل أن تصل إلى المتقبل عليها أن تخترق الأغشية أو الحواجز الثقافية والمعلوماتية وحتى النفسية التي تحيط بالمتقبل وهو ما يعرف في علوم التواصل وعلم النفس بالإدراك الانتقائي . فحولنا تتجول وبصورة دائمة ، كمية لا متناهية من المعلومات لكننا لا نستقطب منها ولا تلفت انتباهنا إلا ما نعتبره معلومة ذات دلالة وذلك من زاوية مرجعياتنا وما عدى ذلك فليس إلا محض ضجيج....
هذه الملاحظة تمهد لمقاربة منطق اشتغال أنظمة الإعلام والاتصال في مجتمعنا في علاقتها بالمرأة ناظرة ومنظورة  بصورة عامة ورؤيتها لموضوع مشاركة المرأة في العمل السياسي ودورها في لعبة الانتخابات على وجه التخصيص...




3. التواصل المباشر وجها لوجه :
البداية لا بد أن تكون من المنبع والأساس ، من عملية التواصل المباشر وجها لوجه بين امرأة ورجل بغض النظر عن الفضاء والتوقيت. ففي إطار هذا النوع من التواصل غالبا ما تكون لغة الجسد( النظرات ، الملابس والألوان ، ووضع الجسم...الخ) هي الفاتحة بين الطرفين – من وجهة نظر رجاليه بطبيعة الحال-  حيث تحتل هذه اللغة المرتبة الأولى. وتخضع العملية للتصورات الذهنية لكل طرف عن الآخر من منظور النوع البيولوجي في البداية ومن منظور النوع الاجتماعي في النهاية..  وبالتالي فإن التواصل المباشر بين النوعين الاجتماعيين يتأثر بشكل مباشر وغير مباشر بالمعطيات البيولوجية والاجتماعية والثقافية السائدة.. ذلك على المستوى التواصلي البسيط . ومن هذه المنطلقات يمكن فهم آليات صياغة الخطاب الإعلامي السائد عبر الفضاء الميدياتيكي فيما يتعلق بالمشاركة السياسية للنساء .

4. التواصل عبر الفضاء الميدياتيكي:
الجدير بالملاحظة أن عملية التواصل في هذا الإطار تتم في اتجاه أحادي ، من القائم بالاتصال في الوسيلة الإعلامية إلى المتلقي وبشكل سلبي...
ومن المثير للتساؤل هنا أن الخطاب الإعلامي السائد في الفضاء الميدياتيكي اليمني باختلاف ألوانه السياسية ومرجعياته الفكرية وأصوله الاجتماعية لا يتعاطى في الشأن النسوي إلا في المناسبات ومن منظور القائم بالاتصال ووفقا لاستراتيجياته وبما يخدم مصالحة .. ذلك قد يكون مجرد فرضية تحتاج إلى بحث وتقصي .. إلا أنه لا يقلل من أهميتها أو ينفيها مسبقا، لأنها نابعة من استطلاع لبعض التجارب ومعايشة للبعض الآخر ومن ممارسة تواصلية يومية مع الآخر ومع الوسطاء من وسائل إعلام وغيرها...
نتعرض ، كرجال، على مدار الساعة لكم هائل من الصور والمعلومات حول النساء  في وسائل الإعلام .. ونجد أن هناك تصورا سائدا منمطا عنها لا يعبر بالضرورة عن الواقع المعاش ولا عن رؤيتهن الذاتية ككائنات بشرية واجتماعية وثقافية..  وقد أثبتت الكثير من الدراسات التي يمكن الرجوع إليها والتثبت منها أن واقع النساء في اليمن الذي تصوره لنا وسائل الإعلام مختلف تماما عما نعيشه ونعايشه في حياتنا اليومية، فهو إما مشوه او منمط أو منسي تماما.. فلماذا يا ترى ؟ هل لأن القائم بالاتصال في الغالب هو رجل.؟ تفيد الدراسات الميدانية في هذا المجال أن نسبة النساء العاملات في وسائل الإعلام الرسمية، مثلا، لا تتجاوز (10.8 %)، أغلبهن يعملن في وظائف إدارية ثانوية أو كمذيعات. ولا توجد امرأة واحدة في موقع قيادي..) ..  وغالبا ما يعتقد القائم بالاتصال- الرجل ، بوعي منه وبدون وعي ، أن ما ينقله لنا عن آخره/ المرأة هو الواقع بعينه بموضوعية تامة . وهو محق في ما يدعيه لأنه ينظر إلى ذلك الواقع من منظاره الخاص المتأثر بمرجعياته المختلفة .
ومن أهم سمات الخطاب الإعلامي التي يمكن الاستدلال بها هنا حول القضايا المرتبطة  بالشأن النسوي عامة وفيما له علاقة بالسياسي على وجه الخصوص ما يلي : 
-    سيادة نمط الاتصال الأحادي العلوي في وسائل الإعلام الذي يتجه من القمة إلى القاعدة ومن المتعلمين إلى الأميين ومن سكان المدن إلى سكان الأرياف . وهذه النمط لا يحترم عقلية المتلقي ولا يحرص على تلبية احتياجاته الاتصالية .... وهذه المسألة من التحديات التي تواجه الحكومة فيما يتعلق بإيجاد مشاركة فاعلة للنساء في الانتخابات..
-    التحيز الاجتماعي لوسائل الإعلام لنساء المدن على حساب نساء الريف ولصورة المرأة الأنثى الجميلة والأنيقة على حساب الصور الأخرى للمرأة كمنتجة ومشاركة في التنمية وفي صنع القرار السياسي..
-    الخطاب الإعلامي يقدم المرأة على أنها مخلوق تابع ناقص القدرة على التفكير العقلاني مقابل التأكيد على أنها مخلوق عاطفي حساس وهش وأنها تتوقع العون والمساعدة والقيادة من جانب الرجل... بالإضافة إلى تصويرها على أ،ها أداء للإغراء والإمتاع خصوصا في الإشهار للسلع التجارية والخدمات......
-    يكرس الخطاب الأدوار التقليدية للمرأة داخل المنزل، كزوجة وأم وربة بيت وخارجه كمعلمة أو ممرضة أو سكرتيرة ، بحيث لا تتجاوز اهتماماتها أمور الطبخ والأزياء ورعاية الأطفال... وفي المقابل يتم تجاهل أو تهميش أدوارها الثقافية والسياسية والاقتصادية الأخرى الأكثر أهمية...

إن المهم بالنسبة لنا كرجال – على الأقل في مستوى أولويات التفكير النقدي- هو فهم الآليات التي تحكم تشكل الخطاب الإعلامي في علاقته بالسياسي .. وبالممارسة السياسية.. فالدفاع والتبرير لمضامين الخطاب قبل المعرفة النقدية لا تؤدي إلا إلى تثبيت نرجسي ومطهر ومطمئن لتصورنا الإشكالي للعلاقة مع الآخر / المرأة ..
ومرحلة فهم الخطاب الإعلامي ليست نهاية في حد ذاتها بقدر ما هي ممر لا مفر من عبوره من أجل فهم آليات اشتغال النظام الميدياتيكي في اليمن ومن أجل تشخيص الأطراف الفاعلة والمواقع التي يحتلها كل طرف.  ومن المنطلق السابق يجب أن يخضع الخطاب الإعلامي لقراءة نقدية وتحليل علمي  لمضامينه كما وكيفا. كيف يتعامل الإعلام مع قضايا المرأة ومشاركتها السياسية ؟ وماهي نقاط القوة ونقاط الضعف فيه؟  وما هي العوامل التي تحكم إنتاج هذا الخطاب ؟
فالخطاب الإعلامي اليمني تجاه موضوع مشاركة المرأة السياسية ، كأي خطاب آخر، يمر أثناء تكوينه بمراحل ثلاث :
-    المرحلة الأولى تتمثل في التموقع داخل الفضاء المجتمعي المكتظ بخطابات  اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة...
-    المرحلة الثانية يؤسس فيها الخطاب الإعلامي أشكالا خاصة للتعامل مع واقع مشاركة المرأة السياسية وانتقاء معلومات ذات دلالة بالنسبة له تستند على مرجعيات القائمين بالاتصال النوع اجتماعية والفكرية...
-    المرحلة الثالثة يعيد فيها الخطاب الإعلامي إنتاج الواقع وعرضه. وهنا يتم بناء الواقع عبر التمثلات وحينها يتحول إلى واقع جديد. وتتم هذه العملية بطريقة لا واعية وفق المعطيات الخاصة للذات المتمثلة ( الحقل الذي تتحرك فيه الذات).
وتجب الملاحظة هنا أن هذه المستويات الثلاثة ليست إلا بناءات نظرية لا تعكس بطريقة ميكانيكية التعقد والديناميكية اللذان يميزان الواقع الاجتماعي/الثقافي..
إن طريق النساء للتعبير عن أفكارهن ومصالحهن في وسائل الإعلام أمر في غاية الصعوبة والتعقيد .. والمعبرون عن مصالح النساء، في الغالب والأساس، هم الرجال .. وحين يسأل الرجل عن الدور الملائم للمرأة ، نجده يجيب في ثقة: أداور الأم والزوجة والمربية ... وإذا ما أتيح للنساء من القيام بدور القائم بالاتصال وبث رسالة إعلامية نجد نوعين يمثلن في الغالب طرفي نقيض : فمن ناحية هناك اللاتي يستخدمن جميع خصائصهن وصفاتهن الأنثوية الطبيعية وغيرها ، ومن ناحية أخرى نجد في الطرف الآخر نوع من النساء يخفن من كل ما هو أنثوي ويتوجسن خيفة منه ليصل الأمر أحيانا إلى نفي انتماءهن الجنسي...

5. الوسيط  الميدياتيكي :  
نقصد بالوسيط الميدياتيكي هنا ما يمكن ترجمته "بالشامل الإعلامي" ، أي جميع الوسائل التقليدية والحديثة التي يمكن من خلالها القيام بعمليات تواصل بالمجموعات الاجتماعية ، سواء كانت وسائل إعلام جماهيرية كالصحف والإذاعة والتلفزيون وشبكات الإنترنت والفيديو والسينما وغيرها ، أو عبر التواصل المباشر في فضاءات أخرى كالمسجد والمدرسة والجامعة والنادي...الخ . ولا نحتاج هنا للتذكير بأن الرسالة الإعلامية التي يبثها القائم بالاتصال لا تصل مباشرة إلى المتلقي وإنما تخضع لعمليات "غربلة" وتمر بحواجز أو أغشية عديدة وأن أحد أهم تلك الأغشية هو طبيعة العلاقة بين الرجال والنساء في الفضاء الميدياتيكي نفسه والعوامل المختلفة التي تحكم تلك العلاقة ..  
وفي هذا السياق نطرح نموذجا لهذه العلاقة من خلال الاستفادة من دراسة سابقة تمت حول تقسيم العمل بين النساء والرجال من منظور "نوع اجتماعي"[1]. والتي هدفت إلى  والكشف عن العوامل المؤسسية والاجتماعية، بما فيها دور الرجل، التي تتحكم في الوضع المهني للنساء العاملات في المؤسسات الإعلامية وفي فرص الحراك الوظيفي والتفوق والإبداع المهني لديهن..  
وقد تبين من نتائج الدراسة أن نسبة العاملات في المؤسسات الإعلامية لا تتجاوز إجمالا 10.8 % ، وأن معظم هؤلاء النساء يعملن في مستويات وظيفية متدنية ( المجموعة الثانية وما دونها ) . ويتركز توزيعهن الوظيفي والمهام التي يقمن بها في المجالات الإدارية والخدمية بالإضافة إلى الوظائف التي تفيد من أنوثتهن....
 وأثبتت الدراسة الميدانية بأن كلا من توزيع الوظائف والمهام والترقيات تتأثر بعامل النوع الاجتماعي ، وأن تأثر تقسيم العمل بعامل النوع الاجتماعي في جميع مستوياته يكرس سيطرة الرجال على العمل المهني الإعلامي. وبالنتيجة فإن الفرص المتاحة للنساء لمنافسة الرجال في العمل الإعلامي وتقديم أعمال متميزة وتطوير العقل المبدع لديهن، هي ضئيلة وتقف أمامها معوقات عديدة في مختلف المستويات. كذلك ، وبقدر ما ظهر من تباين في الرؤى والتصورات حول تفسير واقع هذا التأثير ومظاهره وخلفياته، فإن تعبيرات ذلك تبين لنا أننا أمام مسألة مركبة تتداخل فيها خصوصاً العوامل الذاتية (الخاصة) ، والعوامل المجتمعية (الاجتماعية والثقافية) ، والعوامل المؤسسية .
ومن أبرز التفسيرات التي قدمت في هذا السياق :  
-    مواقف العائلة وأبعاده الثقافية المتعددة من عمل النساء في أوقات الليل أو السفر في أي مهمة خارج مقر إقامتهن دون "محرم".
-    التصورات المغلوطة السائدة حول طبيعة العمل الصحفي، خاصة السمعي البصري،  وما يترتب عليه في نظر البعض من تجاوز للقيم الاجتماعية، بالاختلاط المباشر بالرجال والانتشار والشهرة "غير المرغوبة" بالنسبة للنساء. 
-    أدوار النساء أنفسهن داخل العائلة خاصة ما يتعلق منها بأدوار الزوجة والأم والتزاماتها الاجتماعية تجاه الزوج والأطفال، وما يرتبط بهذه المواقف والأدوار من قيم ونماذج مستمدة من الثقافة السائدة.
-    عوامل سيكولوجية مثل عدم الثقة بالنفس والبحث عن المهام السهلة، وعدم "تحمل النساء القيام بمهام شاقة" لأسباب نفسية وفسيولوجية تتعلق " بكون النساء "أقل قدرة على السيطرة على النفس". 
-         إحساسهن بأنهن مهمشات واستسلامهن للأمر الواقع.
-    المستوى التعليمي المتدني للنساء مقارنة بزملائها الرجال والذي يطرح عليها أحيانا إشكالات أمام الترقية الوظيفية.
-          بقاء ارتباط صناعة القرار بأيدي الرجال.
-         الفساد الإداري والمالي المنتشر وإهمال المختصين بمتابعة الترقيات
-         العدد المحدود للنساء العاملات  ، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون للرجال الأولوية في أخذ الأدوار القيادية.

  والخلاصة التي خرجت بها الدراسة أن الإعلاميات يتعرضن لما يمكن تسميته "بالعنف الرمزي" عبر تقسيم العمل المرتكز على معيار النوع الاجتماعي  في المؤسسات الإعلامية اليمنية الأمر الذي يؤثر على مستوى أدائها ومضامين رسائلها الإعلامية خاصة فيما يتعلق بصورة النساء وأدوارهن المختلفة. وبالتالي يتم من خلال هذا النمط من تقسيم العمل ومن ممارسة العنف الرمزي ضد النساء، إعادة إنتاج البنى الذكورية الطابع التي تهيمن على الحياة المهنية والاجتماعية وحتى السياسية.







6. خاتمة :
إن النساء في اليمن لديهن من القدرات ما يؤهلهن للمشاركة الفاعلة في تنمية المجتمع وتطويره في جميع المجالات إلا أن الاستفادة من تلك القدرات رهن بعوامل اجتماعية وثقافية ومؤسسية مختلفة ومتفاوتة، الأمر الذي يتعين على المجتمع، بمؤسساته وأفراده رجالا ونساء، العمل المخلص للتغلب على كل ما يعترض رعاية وتنمية قدرات النساء الإبداعية باعتبارها مكملة لقدرات الرجال، ولا يستطيع الرجال الادعاء بتفوقهم في أي مجال بمعزل عن مؤسسات المجتمع وثقافته السائدة، غير أن ذلك يتطلب بدوره تحرير العقل اليمني من التصورات الذهنية السلبية تجاه أدوار النساء والعلاقة بين الرجال والنساء.. ومن وجهة نظر سوسيولوجية، فإن خبرات النساء وسلوكهن، بشكل عام، ومشاركتهن في العمل السياسي على وجه الخصوص، تتأثر بالتوقعات المرتبطة بجنسهن. وبما أن جنس النساء لا يمكن أن ينفصل عن جنس الرجال، فلا وجود لأي منهما دون الآخر، وبالتالي فإن المشاركة الحقيقية والفاعلة للنساء بشكل عام تتأثر بخبرات الرجال وتوجهاتهم ومواقفهم وسلوكهم...
    إن الوسائط الميدياتيكية ومنها وسائل الإعلام جزء لا يتجزأ من البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للمجتمع وتسهم فى تطوير هذه البنية بما تبثه من أفكار وتشيعه من قيم ولكي تقوم بهذا الدور فيما يخص التعامل مع مشاركة النساء الفاعلة في الانتخابات وفي الممارسة الديمقراطية في الحياة عامة ينبغي الأخذ بما يلي:
 أولاً: تطوير التشريعات الخاصة بمشاركة النساء في الحياة العامة وذلك بما يتيح لهن ممارسة المهن العصرية وترسيخ قيم العمل الديمقراطي فيما لا يتعارض وخصوصية المجتمع .
 ثانياً: رفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية مشاركة النساء في العمل الإعلامي والسياسي بناء على معطيات الواقع المدروس.
 ثالثاً: وضع السياسات والبرامج العملية التي تساعد على زيادة مشاركة النساء في سوق العمل الإعلامي.
 رابعاً: تأسيس مركز للبحوث والتدريب يهتم بالقضايا المرتبطة بمشاركة النساء في العمل الإعلامي والسياسي .
 خامساً: المساواة بين النساء والرجال في التدرج الوظيفي والترقي للإعلاميات في المؤسسات الإعلامية المختلفة بما في ذلك مواقع صنع القرار. وتوفير فرص التدريب والتأهيل المهني الملائم لمساعدتهن على تطوير معارفهن وخبراتهن ومواكبة التطورات العلمية الحديثة في مجال الإعلام وتقنيات الاتصال.
 سادساً: تكثيف العمل الميداني المشار كي الهادف إلى رفع وعى النساء بتعريفهن بقضاياهن الأساسية وحقوقهن المدنية والسياسية من خلال التوظيف الفاعل للفضاء الميدياتيكي والمهارات التواصلية الفردية .
 سابعا : الاستفادة من الدروس المستخلصة من التجارب السابقة للمشاركة النسائية في الانتخابات والعمل السياسي.. ودور الإعلام فيها عن طريق القيام بدراسات  تقييم لعينات من المشاركات في الترشح والترشيح والعمل التنظيمي من منظور تواصلي وليس سياسي.
   
  



         



[1] أنظر : د. عبد اللطيف الأدهم و د. عبدالله الزلب ، تقسيم العمل في المؤسسات الإعلامية اليمنية من منظور النوع الاجتماعي، دراسة مقدمة لمؤتمر تحديات الدراسات النسوية الدولي ، صنعاء سبتمبر 1999.

الجمعة، 13 مايو 2011

ورقة علمية مقدمة لمؤتمر المرأة العربية والإبداع – القاهرة 2004




              



محددات الإبداع لدى المرأة العربية من منظور النوع الاجتماعي
(الوضع المهني للإعلاميات اليمنيات نموذجا)






د/ عبدالله علي الزلب
قسم الإذاعة والتلفزيون – كلية الإعلام – جامعة صنعاء





مقدمة :

إن الحديث عن المرأة والإبداع ينبغي أن ينطلق من الإيمان الراسخ بأن الإبداع في جميع المجالات العلمية والفنية والأدبية هو أساس تقدم الشعوب، وأن الإبداع لم يكن ولا يمكن أن يكون يوما من الأيام ميزة أو حكرا على جنس بشري بعينه. وفي ظل التحولات المتسارعة نحو صياغة نظام دولي جديد، فإن المجتمع العربي بحاجة إلى تطور إيجابي فاعل وليس تطورا شكليا لمجرد محاكاة ثقافة "الآخر" المهيمنة، سواء كان ذلك " الآخر" رجلا فيما يتعلق بالمرأة أم كان آخرا غربيا أو شرقيا فيما يتعلق بالإنسان العربي، فالتطور الفاعل والإيجابي هو ذلك النابع من الذات والمتفاعل إيجابيا مع الآخر ومشاركا له.
ولما كان وجود النساء لا ينفصل عن وجود الرجال، مثلما لا يمكن لوجود الرجال أن يكون منفصلا عن وجود النساء، فإن المسؤولية مشتركة بين الجنسين، أساسها الحقوق والواجبات وآليات عملها الاجتهاد والتواصل والتكامل.. ويندرج إبداع النساء العربيات في هذا الإطار، حيث لا يمكن الادعاء بوجود إبداع نسائي مستقل له خصوصياته بعيدا عن عالم الرجال مثلما هو الحال تماما مع يمكن أن يسمى بإبداع الرجال... لأن الإبداع خاصية إنسانية لا يمكن اكتسابها بيولوجيا بالوراثة ولا تختص بنوع اجتماعي بعينه... فهو مرتبط بعوامل شتى، اجتماعية وثقافية ومهنية ونفسية...الخ
وفي هذا السياق نطرح نموذجا لهذه العلاقة من خلال تحليل تقسيم العمل بين النساء والرجال من منظور "نوع اجتماعي" والكشف عن العوامل المؤسسية والاجتماعية، بما فيها دور الرجل، التي تتحكم في الوضع المهني للنساء العاملات في المؤسسات الإعلامية وبالتالي في فرص الحراك الوظيفي والتفوق والإبداع المهني لديهن..
إن أسس تقسيم العمل الاجتماعي كانت تستمد على امتداد الحقب التاريخية القديمة من الخصائص البنيوية والثقافية لمختلف المجتمعات الإنسانية، إلا أن مايوصف بعامل النوع الاجتماعي، "الجندر"، شكل باستمرار أحد الأسس المشتركة فيما بينها.  وقد أسهمت التحولات التي عرفتها بعض المجتمعات خصوصا منذ الحقبة الحديثة، والتي أخذت تتعمق تدريجيا ويتسع نطاقها ليشمل مجتمعات أخرى، في التأثير وإن بصورة متفاوتة، على موقع هذا العامل، وعلى حدود دورة.
وفي حالة المجتمع اليمني، كان عامل النوع الاجتماعي، يمثل أيضا أحد أسس تقسيم العمل الاجتماعي. انطلاقا من جملة من المؤشرات السكانية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية.
 إن أهمية إجراء هذا البحث تستمد مرجعيتها من كونه يقدم، من ناحية، إسهاما يساعد على تبين مدى الدور الذي يلعبه عامل النوع الاجتماعي في التأثير على تقسيم العمل فيما يتبع شتى المؤسسات الإعلامية من وسائل مختلفة، مثلما يساعد على مقارنة وتقييم هذا الدور على مستوى أكثر من قطاع مهني، ومن كونه يسمح، من ناحية ثانية، ومن منظور عام بطرح مسائل تتعلق بما يستنتج من خصائص عمل النساء في هذا القطاع ودلالاته على التحولات الاجتماعية والثقافية والإسهام فيها، وبتنمية ما يمكن تسميته العقل المبدع لدى النساء من منظور أكثر خصوصية..
ولتعميق الفكرة الأولية المستخلصة مما ورد في السياق السابق حول موضوع البحث، نشير إلى أننا سنسعى فيه للإجابة على الإشكالية التالية: هل يتأثر تقسيم العمل داخل المؤسسات الإعلامية اليمنية بعامل النوع الاجتماعي ؟ وإذا اتضح أنه يتأثر بهذا العامل، فما هي حدود هذا التأثير على صعيد كل مستوى من مستوياته الرئيسية ؟ وما هي أبرز العوامل التي تدخل في تفسيره في كل مستوى من هذه المستويات ؟ وكيف ينظر "الآخر" الرجل، المتمثل هنا برؤساء هذه المؤسسات للوضعية المهنية للنساء فيها ودورهن المطلوب لتطوير العمل الإعلامي؟ وهل هناك علاقة بين رؤية الآخر/الرجل وبين الآفاق المتاحة للنساء العاملات فيها في المشاركة الفاعلة والتطوير والإبداع..؟ أو بتعبير مباشر، ماهي مجالات "إبداع " النساء المسموح بها من منظور رجالي ؟؟
         



 
أولا : الإطار النظري والمنهجي للبحث :
1. تقسيم العمل والنوع الاجتماعي :
قبل قرنين من الزمان كان ينظر إلى مفهوم تقسيم العمل، من وجهة نظر سوسيولوجية، على انه تخصيص او تجزيء للعمل داخل مؤسسات الإنتاج. ويسمح هذا التجزيء او التخصيص بزيادة العوائد ورفع الإنتاجية . كما ينتج عنه ،أيضا، الترابط بين الأفراد والتكاملية. وبعد قرن من الزمان لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم E . Durkheim  ، بأن المفاضلة بين الأفراد عبر، ما يصفه بالتضامن العضوي، وفصل النشاطات الذهنية والعملية تشكل أساس العلاقة الاجتماعية.[1] وبعكس ذلك يؤكد التمشي الماركسي على ظاهرتي الإغتراب « Aliénation » والهيمنة.
وقد تعددت إسهامات علماء الاجتماع في هذا الموضوع وتطورت النقاشات إلى أن وصلت في السبعينات إلى مستوى آخر وهو مستوى التبادل الدولي بواسطة باحثين وعلماء ينتمون إلى مناطق جغرافية توصف بالعالم الثالث ومن أبرزهم سمير أمين صاحب نظرية المركز المتقدم والمحيط التابع .  
ومع أن أسس تقسيم العمل الاجتماعي كانت تستمد على امتداد الحقب التاريخية القديمة من الخصائص البنيوية والثقافية لمختلف المجتمعات الإنسانية ، فان مايوصف بعامل النوع الاجتماعي، "الجندر"، شكل باستمرار أحد الأسس المشتركة فيما بينها.  وقد أسهمت التحولات التي عرفتها بعض المجتمعات خصوصا منذ الحقبة الحديثة ، والتي أخذت تتعمق تدريجيا ويتسع نطاقها ليشمل مجتمعات أخرى ، في التأثير وإن بصورة متفاوتة ، على موقع هذا العامل، وعلى حدود دورة.
وكان عامل النوع الاجتماعي، يمثل في حالة المجتمع اليمني أيضا أحد أسس تقسيم العمل الاجتماعي[2]. ويلاحظ  انطلاقا من مجموعة من المؤشرات أن هذا العامل شهد خلال العقود القليلة الماضية من تاريخه تحولات متنوعة كان من بين أبرزها، على المستوى البنيوي (الاجتماعي والاقتصادي) ، النمو الديموغرافي المرتفع الذي أدى إلى ارتفاع عدد سكان اليمن من 7.4  مليون سنة 1975 ، إلى   ما يقرب ال 17 مليون استنادا لبيانات آخر تعداد للسكان سنة 1994، تشكل الإناث فيه نسبة (48.8%    )  [3].
ومن المنظور التعليمي، كان انتشار التعليم الحديث من المتغيرات الهامة التي أسهمت بشكل كبير في تأطير النساء بدرجات متفاوتة في مجالات العمل المختلفة, خارج إطار  المنزل والمزرعة، علاوة على انتشار وسائل الإعلام وما تتيحه من إمكانيات للاطلاع على ثقافات أخرى وتقييم الذات. ومع ذلك بقيت نسبة الأمية لدى الإناث أكبر بكثير منها لدى الذكور، حيث بلغت في أوساط الإناث ( 76.9 %    ) مقابل    (31.4%   ) لدى الذكور، في حين لا تتجاوز نسبة النساء العاملات الحاصلات على مؤهلات جامعية           ( 0.23  % ) من إجمالي القوى العاملة [4].
          لقد أثرت صيرورة هذه التحولات على صيرورة إعادة انتاج النمط  الموروث من تقسيم العمل الاجتماعي ، وأسهمت ، لاسيما في الوسط الحضري، في تشكيل نمط آخر تحمل الملامح العامة لأسسه، خصوصا ما ارتبط منها بالعامل الجندري الذي يهمنا في هذا البحث.، قدرا متباينا من مظاهر إعادة الانتاج والتحول، إذ هيأت هذه التحولات  -  وماتولد عن بعضها من شروط مباشرة وغير مباشرة تدفع باتجاه مزيد إدماج النساء في سوق العمل مثل النمو الديموغرافي، ومانتج عنه من صعوبات بالنسبة إلى الفرد والعائلة، وبالنظر إلى أنه لم يصاحبه نمو مماثل للموارد، وترافق في الفترة الماضية مع الكثير من الصعوبات الاقتصادية ، وكذا الهجرة من الريف إلى المدينة، وما تطلبه العيش في هذا الوسط من حاجيات لاشباعها-  هيأت هذه التحولات لتزايد نسبة النساء العاملات ومرورها من 6.7     % من إجمالي القوى العاملة اليمنية، سنة 1975، إلى 21.9 %  سنة 1998 من إجمالي القوى العاملة اليمنية البالغة  ( 3553660 )[5]. وعلى سبيل المثال ازداد عدد العاملين في التلفزيون من 43 شخصا سنة 1975 [6] ، جميعهم من الذكور، إلى600 شخص في أغسطس 2002م[7]. 
 2. منهجيةالبحث :
  سنتبنى مقاربة تعتمد في تناولها للوضعية الحالية لتقسيم العمل في وسائل الإعلام المذكورة في علاقة ذلك بعامل النوع الاجتماعي ، ومدى تأثير ذلك على فرص الإبداع والتميز المتاحة لدى النساء العاملات مقارنة بالرجال، على التحليل المقارن ذي المرجعية السوسيولوجية . غير ان توظيف مقاربة كهذه يستدعى الاستعانة ببعض البيانات المحددة ، التي يتطلب الحصول عليها القيام بعمل ميداني رأينا فيه أن الاستبيان سيشكل الأداة المناسبة للوصول إلى غاياتنا.  ولذلك قمنا بحصر ما هو موجود من هذه الوسائل وتصنيفها ، ومن ثم تحديد ما سيتم اختياره منها كعينة للبحث في نطاق ما يتبع منها للمؤسسات الإعلامية الحكومية . ويعد عامل الوقت والإمكانات المتاحة من أهم العوامل التي تفسر الاتجاه لتركيز حقل عملنا البحثي في إطار ذلك الصنف من الوسائل ، في حين تفسر جملة من الاعتبارات اختيارنا له على وجه الخصوص ، ومنها :
      1.        تنوع الوسائل
      2.        توزع أماكن وجودها في عدة مناطق
      3.        حجم طاقة التشغيل فيها وتعدد الاختصاصات التي تحتاجها.
وبالنظر أيضا إلى الصعوبات المترتبة خصوصا عن عاملي الوقت والإمكانات المتاحة ، فإننا رأينا أن نقوم باختيار عينة يتكون مجتمعها من أبرز المؤسسات الإعلامية الحكومية التي تتمحور أولى اهتماماتها حول أحد أصناف العمل الإعلامي الرئيسية، وهي :
المؤسسة اليمنية للإنباء سبأ
مؤسسة الثورة للصحافة والنشر
مؤسسة 14 أكتوبر ،
مؤسسة الجمهورية
مؤسسة الإذاعة والتلفزيون
وقد أخذنا في الإعتبار عند اختيار العينة ما يلي :
   1.    أن تشمل أربعة وسائل تغطي كل واحدة منها صنف من أصناف العمل الإعلامي الرئيس للمؤسسات المشار إليها ( وكالة أنباء ، صحيفة يومية ، إذاعة ، تلفزيون)
      2.        أن يتناسب التوزيع الجغرافي للوسائل المختارة مع التوزيع الجغرافي لمناطق وجود المؤسسات المعنية.
وتعرف العينة التي اخترناها في مناهج البحث بالعينة الطبقية وتضمنت : وكالة الأنباء اليمنية سبأ – صنعاء ، صحيفة الجمهورية- تعز، إذاعة البرنامج الثاني – عدن، القناة التلفزيونية الفضائية – صنعاء . وجمعنا في اختيارها بين الطريقتين المتداولتين في مناهج البحث ، وهما الطريقة المنتظمة والطريقة العشوائية . فبالنسبة إلى الوسيلتين اللتين تنتميان إلى ما يعرف بالصحافة المكتوبة تمت الاستعانة بالطريقة المنتظمة ، من منطلق أن وكالة سبأ للأنباء هي الوحيدة في البلاد، ولا توجد وكالات أنباء عاملة غيرها، ومن منطلق أن صحيفة الجمهورية هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نضمن من خلالها تمثيل المنطقة ، وتقديم نموذج ينطوي على المعايير الأساسية لتمثيل الصحف الحكومية اليومية. وبالنسبة إلى الوسيلتين الأخريين اللتين تنتميان إلى الصحافة المسموعة والمرئية، تم اتباع الطريقة العشوائية على اعتبار وجود قدر من التناظر بين الوسائل المسموعة والمرئية الموجودة في كل من صنعاء وعدن ، الأمر الذي يسمح منهجيا باتباع مثل هذه الطريقة المذكورة.

3. خصائص العينة :
يبلغ إجمالي العاملين في الوسائل الإعلامية الأربع (1271) موظف منهم 136 امرأة بنسبة (   10.8%) وفقا للقوائم الرسمية .
          وقد اخترنا من كل وسيلة من هذه الوسائل لتطبيق الاستبيان كل من رؤساء هذه الوسائل والنساء العاملات في مراكزها الرئيسية، وذلك لكي يتاح لنا الوصول من خلالها التعرف على أطروحاتهم إلى ما يمكن أن يساعد على صياغة رؤية تتأسس على المقارنة والتقييم المتميز بنوع أكبر من الشمول . كما اختير كذلك ، من بين هؤلاء العاملات اللاتي يشغلن الوظائف المختصة التي لا يدخل ضمنها وظيفة التنظيف ، والتي تحتاج إلى قدر من التعليم. ويلتقي اختيارنا مع التصور الذي سنستعمله هنا ، والذي يرى أنه في حالة المؤسسة لا يكفي التوقف في دراسة تقسيم العمل والبحث عن مؤشراته ذات العلاقة بعامل النوع الاجتماعي ومدى تأثيره على مستوى أداء النساء وظروف العمل الإبداعي، عند مستوى توزيع الوظائف، بل ينبغي أيضا إدماج المستويات الأخرى ، لاسيما ما يتصل منها بتوزيع المهام ذات الارتباط المباشر بعملهن ، وبتوزيع الترقيات الوظيفية واحتلال المناصب الإدارية المختلفة فيها .
وقد تم استرجاع 99 استمارة من إجمالي الاستمارات الموزعة للنساء الموظفات البالغة 136 ، بالإضافة إلى الأربع الاستمارات الموجهة لرؤساء المؤسسات.

الخصائص التعليمية لعينة رؤساء المؤسسات الإعلامية :
عالي
جامعي
تقليدي
25 %

50%
20%

 الخصائص التعليمية لعينة النساء العاملات :
عالي
جامعي
ثانوي أو دبلوم
إعدادي ومادون ذلك
غير محدد
2.4%
22.8%
58.5%
8.5%
8.5%


  ثانياً: الوضعية الراهنة لتقسيم العمل وعلاقتها بالنوع الاجتماعي
أشرنا إلى أن رؤيتنا لدراسة الوضعية الراهنة لتقسيم العمل في علاقته بالنوع الاجتماعي، تنطلق من المنظور العام لهذا التقسيم الذي يستوعب مستوياته الرئيسية المتمثلة في :
1.    توزيع الوظائف
2.    توزيع المهام
3.    توزيع الترقيات الوظيفية
ووفق هذه الرؤية، فإننا سنقوم في المحور الأول من هذا القسم بتناول طرح النساء العاملات، في حين سنتناول طرح رؤساء المؤسسات في المحور الثاني منه.

1.   طرح الموظفات 
احتوت الاستمارة التي وزعت على الموظفات اللاتي شملهن الاستبيان سلسلة من التساؤلات التي استهدفت دراسة مدى تأثير عامل النوع الاجتماعي على تقسيم العمل في مستوياته المختلفة داخل العينة المدروسة من وسائل الإعلام الرسمية المختلفة، بالانطلاق في سياق هذا القسم من البيانات المستمدة من الإجابات المتحصل عليها من هؤلاء الموظفات. وقد جرت صياغة تساؤلات هذه الاستمارة بصورة تلتقي فيها الاتجاهات العامة للكثير من مضامينها مع تلك التي وردت في الاستمارة الموجهة لرؤساء المؤسسات الإعلامية . وكانت الغاية من ذلك ترمي إلى تبين الرؤية التي يحملها طرح هذه الفئة حول نفس المسائل التي تثار في طرح فئة رؤساء المؤسسات ، وإلى تسهيل المقارنة لاحقا بين كلا الطرحين . وسنقوم فيما يلي بتقديم وتحليل ما تضمنته إجابات الموظفات في نطاق كل مستوى.

1- 1- توزيع الوظائف :
           لمعرفة مدى تأثير تقسيم العمل بعامل النوع الاجتماعي، تم الرجوع إلى ما أدلت به المستجوبات من بيانات حول الوظائف التي يعملن بها، بالإضافة إلى السجلات  الرسمية الخاصة بالموظفين، والتي يتضح منها أنها تتوزع على الاختصاصات المبينة في الجدول التالي :
جدول رقم ( 2 ) توزيع الموظفات حسب اختصاصهن الوظيفية
الاختصاص
العدد
النسبة
مالية إدارية
38
56.7
إعلامية صحفية
17
25.4
إعلامية تقنية
14
16.4
دون إجابة
2
1.5
المجموع
67
100

تظهر القراءة العامة للبيانات الواردة في الجدول أعلاه ، وتفصيلاتها الواردة في الاستمارات المسترجعة، أن هناك وجود للنساء في الاختصاصات الرئيسية المختلفة ، وأنهن يعملن في مجال المحاسبة والسكرتارية وشئون الموظفين ..الخ ، وفي مجال التحرير الصحفي والتغطية والتقديم …الخ، إضافة إلى مجال الهندسة ، والإخراج ، والمونتاج ، والصف بالكمبيوتر …الخ. غير أن القراءة المعمقة تظهر ، مع ذلك ، أن هناك أكثر  من مؤشر من مؤشرات تأثير التوزيع الوظيفي بعامل النوع الاجتماعي، لعل أبرزها غياب النساء عن العديد من الوظائف التي تتعلق ببعض الاختصاصات المرتبطة بطبيعة عمل هذه المؤسسة او تلك، وتركز عمل غالبيتهن في بعض الاختصاصات.  ويستنتج من الإجابات المتحصل عليها في هذا السياق وجود عدد من عوامل التفسير لاستمرار تأثير عامل النوع الاجتماعي تتوزع، من حيث منطلقاتها بين العوامل ذات المنطلقات الذاتية والمجتمعية، والعوامل ذات المنطلقات المؤسسية.

1- 1-1-  العوامل الذاتية والمجتمعية :
          طرح على المستجوبات، بغرض البحث عن تفسير ما خلص إليه الاستنتاج السابق، سؤال حول العوامل التي تكمن وراء قبولهن للوظيفة التي اسندتها إليهن المؤسسة . وقد انطوى السؤال على ثلاثة اختيارات، وجاءت الإجابات على النحو المبين في الجدول التالي :
جدول رقم ( 3 ) مرجعية تفسير عوامل التوزيع الوظيفي وفقا لمعيار النوع الاجتماعي :
العوامل
التكرار
النسبة
ذاتية
31
46.3
مجتمعية
16
23.9
مؤسسية
15
22.4
غير محدد
5
7.4
المجموع
67
100%

يلاحظ بالرجوع إلى الجدول السابق أن العوامل الذاتية ، بمضامينها ذات الأبعاد الموضوعية مثل المؤهل العلمي والتخصص والخبرة، والشخصية مثل الطموحات والميول ، جاءت في مقدمة العوامل التي فسرت بها غالبية المستجوبات قبولهن للوظائف التي أسندت إليهن ، وتلتها العوامل المجتمعية، بمضامينها ذات الأبعاد الاجتماعية والثقافية. وإذا كان ما يستخلص من مجموع نسبتي العوامل الذاتية والمجتمعية، الذي يتجاوز ضعف مجموع نسبة العوامل ذات المنطلقات المؤسسية،  يعكس أهمية دورها بالمقارنة مع غيرها ، فإنه لا يمكن ، مع ذلك ، إغفال دور العوامل المؤسسية ذات الأبعاد القانونية والتنظيمية والمهنية وإن كان يبدو أقل أهمية.
1-1- 2- العوامل المؤسسية :
رأت 22.4 % من المستجوبات، كما يظهر من بيانات الجدول السابق ، أن قبولهن للوظائف التي يعملن فيها راجع إلى كون ذلك الخيار الوحيد الذي أتيح لهن من قبل المؤسسة التي يعملن فيها ، الأمر الذي يدفع إلى طرح تساؤل هام في هذا السياق وهو : هل كانت اختيارات المؤسسة والقائمين عليها تتأسس على اعتبارات ترتبط بعامل النوع الاجتماعي؟ إن ما يستفاد مما أدلت به (60     %  ) من ضمن هؤلاء المستجوبات أن هناك ترابط بين اختيارات المؤسسة وعامل النوع الاجتماعي.
ولمعرفة تفسيرات هذه الاختيارات من وجهة نظرهن ، وما إذا كان هناك نصوص في لوائح المؤسسة تسمح بتبريرها ، فإن قلة منهن قدمن ، بالنسبة للنقطة الأولى ، بعض التفسيرات منها "المظهر الخارجي للنساء والجمال " و "وأوقات العمل"، والتوزيع الزمني للعمل والمتعارف عليه باسم الورديات أو النوبات، وتوزع ما ورد في الاستمارات بالنسبة للنقطة الثانية المتعلقة باللوائح القانونية ، بين الإجابة "بنعم" بالنسبة إلى واحدة منهن ، والإجابة ب " لا " ، أو " "لا أدري" ، أو عدم الإجابة بالنسبة إلى البقية.  

1- 2 -  توزيع المهام :
تكمل دارسة توزيع المهام دراسة توزيع الوظائف، بالنظر إلى أن بعض الوظائف تتطلب القيام بمهام تستوجب التنقل والسفر والعمل في أوقات متعددة ….الخ ويتبين من تحليل نتائج مجموع الإجابات أن عامل النوع الاجتماعي يؤثر بصورة كبيرة على توزيع المهام في عدد معين من الوظائف بالمؤسسات الإعلامية التي شملها البحث، حيث أنه، على الرغم من اختلاف تقييم المستجوبات، فإن ما نسبته 89.6n    %  منهن اعتبرن أن هذا العامل يؤخذ في الحسبان باستمرار . وسيتجه الاهتمام في هذا المحور نحو تلمس حدود دور كل من النساء العاملات والمؤسسة في هذه المسالة ، وما يتم تقديمه من عوامل تفسير لها في كلتا الحالتين.
1- 2- 1- دور النساء ومرجعية التفسير:
تضمنت استمارة الاستبيان سؤالاً يهدف للكشف عن مدى الدور الذي تلعبه النساء فيما قد يلاحظ من وجود تأثير لعامل النوع الاجتماعي في توزيع المهام. ويشير ما جاء في ردود المستجوبات اللاتي رأين بوجود تأثير لذلك العامل في التوزيع، وعددهن 70 مستجوبة، إلى أن ثمة تفاوت في تقييمهن لمدى الدور الفعلي الذي تلعبه النساء (كبير : %36.7   ، متوسط : %25   ، محدود : %30  ، لا يوجد أو دون إجابة :  %8.3  ). وإذا كانت تلك الإجابات تظهر أن العدد الأكبر منهن قد أشرن إلى وجود مثل ذلك الدور، فإن ما يزيد بقليل على ثلثي المستجوبات توقفن عند عوامل التفسير، والتي توزعت حسب تكرارات منطلقاتها على النحو المبين في الجدول التالي :  

جدول رقم ( 4 ) عوامل تفسير دور النساء في توزيع المهام القائم على النوع الاجتماعي:
العوامل
النسبة
ذاتية
33.9
مجتمعية
58.3
أخرى
7.8
المجموع
100%

تبرز المعطيات الواردة في الجدول أعلاه أن العوامل المجتمعية (الاجتماعية والثقافية) ،  والعوامل الذاتية كانت أكثر العوامل التي تفسر ، من وجهة نظر المستجوبات ، الترابط المستنتج بين تأثر توزيع المهام بعامل النوع الاجتماعي ودور النساء في ذلك . كما أنها تبرز، في نفس الوقت، وجود عوامل اخرى تم التطرق إليها في إجابات نسبة قليلة منهن.
وعند تحليل ما ورد في سياق مضامين العوامل الاجتماعية، يلاحظ أن موقف الأسرة وموقع المرأة في بنيتها وأدوارها فيها احتلت حيزاً كبيراً في ردود غالبية المستجوبات. فالقيام ببعض المهام يواجه ب"رفض الأسرة" و"عدم التشجيع"…، نتيجة إلى نظرة الأسرة خاصة وفيها الأب والأخ، إلى المرأة بأنها قاصرة"، أو لما تتضمنه بعض الأدوار المسندة إلى المرأة من التزامات مثل دور الأم والزوجة، و"عدم تفهم الزوج لطبيعة عمل المرأة". ويأتي، بعد ذلك، بالنسبة إلى المستجوبات، ماله علاقة بالوسط الاجتماعي والمجتمع. فالثقافة السائدة في مجتمعنا والأوساط الاجتماعية تنطوي على عادات وتقاليد "لاتعطي مساحة أو هامش لحرية الاختيار" و"تمنع المرأة من القيام ببعض المهام"، وتواصل تعميق التصور بأن "المرأة أقل قدرة من الرجل ولاتستطيع أن تؤدي ما يوكل إليها عل أكمل وجه". وترى بعض المستجوبات أن "تدني المستوى الثقافي للمرأة" و "تدني المستوى التعليمي" هما من ضمن العوامل التي تسهم في إعادة الإنتاج.
أما عند تحليل ما احتوى عليه سياق مضامين العوامل الذاتية، فإن العوامل السيكولوجية هي أكثر عوامل التفسير التي برزت في غالبية الإجابات. وكان عامل "عدم الثقة بالنفس" هو أكثر العوامل تكراراً، وتتجسد مظاهره، كما تذهب إلى ذلك إحدى المستجوبات، في "إحساس بعض النساء بأنهن أقل من الرجل في كل شيئ" . وتكرر في نفس السياق تواتر بعض العوامل الأخرى مثل "الخجل". وقد قدمت هذه العوامل في العديد من الإجابات على أنها مرتبطة ب "طبيعة المرأة" أو "التكوين السيكولوجي لطبيعة المرأة". ولا يمكن، في الواقع، الأخذ بهذا التفسير في صيغته المطلقة، لأن الكثير من الدراسات الأنثروبولوجية وغيرها قد أظهرت قبل عدة عقود أن هناك أيضاً تأثير لما يستبطنه الأفراد، ذكوراً وإناثاً، من قيم ونماذج سلوك عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية في تكوين شخصياتهم.
  
1- 2- 2- دور المؤسسة ومرجعية تفسيره :
لا يقتصر تأثر توزيع المهام بعامل النوع الاجتماعي، بالنسبة إلى المستجوبات، على الدور الذي تسهم به النساء فيه فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المؤسسات نفسها. ومع أن تقييمهن كان متفاوتا حول مدى هذا الدور، (كبير : % 41.7 ، متوسط : % 23.3 ، محدود : %26.7 ، لا يوجد أو دون إجابة : % 8.3فإن الخلاصة التي توصلت إليها إجابات غالبيتهن تؤكد على وجود دور للمؤسسة في ذلك. ويتبين من تناول مضامين هذه الإجابات بروز تصورين مختلفين لتفسير العوامل الكامنة وراء هذا الدور.
فالتصور الأول، الذي يمثل الغالبية، ينظر فيه إلى أن توزيع المهام، على الرغم مما يطرح بأنه "حرص من المؤسسة على العنصر النسوي وعدم تعريضه للمخاطر"، يحمل  المؤسسة المسؤولية في "التمييز بين الرجل والمرأة و"تفضيل الرجل على المرأة" و "الانحياز للرجل". وتركز التفسيرات المقدمة، في المقام الأول، على تأثر هذا التوزيع بانعكاسات العلاقة بين بنية التوزيع الوظيفي داخل المؤسسة وأبعادها الاجتماعية الثقافية. إذ أن ما يستنتج من العديد من الإجابات هو أنه بحكم أن "المناصب الكبيرة يتولاها الرجال"، وبحكم أن "الأفكار الاجتماعية المأخوذة من البيئة تؤثر في قرارات القائمين بالعمل"، فإن من بين نتائج ذلك "عدم الثقة في قدرة المرأة" و "عدم أخذها بعين الاعتبار"، وهو ما تؤدي محصلته بالتالي إلى التأثير على مسألة التوزيع. وتقدم بعض التفسيرات الأخرى عوامل ذات أبعاد إدارية منها، "اتخاذ القرارات في مجالس القات الرجالية" و "عدم تطبيق اللوائح والأنظمة".
أما التصور الثاني، الذي يمثل الأقلية، فإنه يرى أن هناك ما يبرر مثل ذلك التوزيع، مركزاً منطلقاته حول التمايز في التكوين الفسيولوجي بين المرأة والرجل. ويتلخص ما يستنتج هنا في أن "المرأة تختار ما يناسبها"، وأن في المؤسسة اختيار ل "الشخص المناسب في العمل المناسب"، حيث توجد "أعمال الأرجح أن توكل للرجل، وهو الشخص المناسب للعمل بها" على اعتبار أن " الرجال أكثر قدره على إنجاز العمل المطلوب منهم" ، وأنهم يتمتعون ب "حرية التنقل والحركة في المجتمع أكثر من النساء".
وإذا كان ما ورد في هذا التحليل يساعد على الخروج ببعض العناصر والمؤشرات في هذا الإطار، فإن البحث فيما إذا كانت مضامين النصوص واللوائح الإدارية يمكن أن تفسر بصورة تسمح بأن يوضع عامل النوع الاجتماعي في الحسبان عند توزيع المهام، يعد أحد الجوانب الأساسية المكملة له. وعند تطرق المستجوبات لهذه المسألة، فإن الملاحظ أن الإجابة ب "لا" كانت إجابة النسبة الكبرى منهن والتي وصلت إلى % 73.3  ، في حين أن الإجابة ب "نعم" لم تكن سوى إجابة ما نسبته        % 15 منهن. أما النسبة المتبقية من المستجوبات، فتراوحت بين "لا أدري" وبدون إجابة.

1- 3 -  توزيع الترقيات
يتيح لنا تناول توزيع الترقيات الوظيفية في المؤسسات المدروسة توسيع تحليلنا ليشمل المستوى الثالث من المستويات الرئيسية التي ينبغي عدم إغفالها في دراسة العلاقة بين عامل النوع الاجتماعي وتقسيم العمل . ولتبين ما إذا كانت هناك مؤشرات عن وجود ترابط بين توزيع الترقيات الوظيفية والنوع الاجتماعي ، فإنه تم، من ناحية، الرجوع إلى ما أدلت به المستجوبات حول الوظائف التي يعملن بها، وتم ، من ناحية ثانية، تضمين استمارة الاستبيان سؤال يدخل محتواه في إطار هذه المسألة. وقد اتضح لنا ، في الحالة الأولى، أنه لا توجد سوى نسبة صغيرة منهن يشغلن بعض المناصب الإدارية، وفي الحالة الثانية تبين أن إجابات ما نسبته 77.6 %  %   منهن تشير إلى أن توزيع الترقيات الوظيفية يتأثر بعامل النوع الاجتماعي، وإن تفاوتت فيما بينها حول مدى تواتر ذلك في الممارسة العملية.
وبالنظر إلى ما يقودنا إليه ذلك من استنتاج، فإننا سنقوم في هذا السياق، أيضا، بالبحث عن مدى إسهام كل من النساء والمؤسسة، وعن عوامل التفسير المطروحة في كلا الحالتين.

1- 3-1- دور النساء ومرجعية التفسير :
يرى العدد الأكبر من المستجوبات أن للنساء دور في تأثر توزيع الترقيات الوظيفية بعامل النوع الاجتماعي. وإن اختلفن في تقييمهن لمداه ( كبير : % 44.2  %  متوسط محدود لا يوجد او بدون إجابة ) ويستنتج من مضامين إجاباتهن على أن عوامل التفسير تتوزع كما هو موضح في الجدول الموالي :
جدول رقم ( 5 ) عوامل تفسير دور النساء في توزيع الترقيات القائم على عامل النوع الاجتماعي
العوامل
النسبة %
ذاتية
49
مجتمعية
46
أخرى
5
المجموع
100%

يتضح من الجدول السابق أن العوامل التي تفسر دور النساء من وجهة نظر المستجوبات هي عوامل متنوعة ، وترتكز على أكثر من منطلق وتسمح لنا مقارنة ما ورد في ذات الجدول من بيانات بما ورد منها في الجدول رقم 6 ، المتعلق بنفس هذا الجانب من مستوى توزيع المهام ، إلى الخروج بأول القواسم المشتركة بين كلتا الحالتين ، وهو التعدد في عوامل تفسير دور النساء .
ويبدو ، عند الانطلاق بتحليل مضامين العوامل الذاتية الأكثر تكراراً ، ان ثمة نزعة لدى الموظفات ركزت عليها الإجابات من منطلق أنها أحد العوامل التي تفسر دورهن في العلاقة بين عامل النوع الاجتماعي وتفاوت إمكانات الحراك الوظيفي الصاعد والحصول على الترقيات الوظيفية المتعددة . وتتمثل هذه النزعة ، كما تذكر إحدى المستجوبات، في "عدم مطالبة المرأة بحقها في العمل والترقية" ، او "عدم متابعتها لمصالحها مثل الرجال" ، في تعبيرات أخرى ، أو "عدم الإلحاح والمثابرة على حقوق النساء" في تعبير ثالث. وتمدنا الإجابات بعناصر تبرز ما تسهم به الانعكاسات ذات الأبعاد المهنية والنفسية للواقع العملي للموظفة في ظهور مثل هذه النزعة.
فهو واقع يتميز "بضآلة الفرص المتاحة" للموظفة، وب"تشكيك المحيطين بها" ، وغير ذلك مما سنأتي على ذكره لاحقاً. وقد أسهم هذا الواقع في إفراز نموذجين من الموظفات :
النموذج الأول : ويمثل صنف الموظفات اللاتي يتميزن بشعورهن ب"الرضى النفسي عن الوضع الراهن" واللاتي لا يعملن على الاستفادة مما قد يتاح من امكانيات للحصول على ترقية وظيفية لعدة اعتبارات منها " عدم الثقة في النفس في تنفيذ مهام الوظيفة الجديدة" ، و " التخوف من تحمل المسؤولية " ، و " إحساس الموظفة بأن ذلك فوق طاقتها".
النموذج الثاني : ويمثل صنف الموظفات اللاتي لا ينقصهن "الطموح" غير أن عدم إتاحة الفرصة لهن له آثاره التي تساهم بدورها في الوصول بهذا الصنف من الموظفات إلى نفس النتيجة التي يصل إليها الصنف الأول ، أي القبول بالوضع القائم ، والاستسلام لهذا الواقع وليس من باب الرضى النفسي عنه.
وتشكل العوامل ذات المنطلقات الاجتماعية المصدر الآخر لتفسير تلك العلاقة بالنسبة إلى المستجوبات . ويستخلص من تحليل الاجابات أن بعضها يشير مجددا إلى عدد من العوامل اليت أشير إليها في نفس السياق من توزيع المهام، على اعتبار أن الحصول على ترقية وظيفية قد يتطلب ، من الناحية المهنية ، القيام ببعض المهام التي لا تتناسب مع وضعها الاجتماعي والثقافي في المجتمع. ومع أن عنصر التداخل هذا يعد قاسما مشتركا آخر بين المستويين ، فإن من الملاحظ أنه تم التركيز بصورة أكبر على مسألة تقسيم الأدوار وإسهامه في توزيع الترقيات الوظيفية على أساس النوع الاجتماعي. فهو تقسيم يتيح ، كما تذكر إحدى المستجوبات، إمكانية واسعة للرجل للتصرف في الوقت ، ويجعله بالتالي ، "متفوقا على المرأة بحكم تفرغه" ، مقابل انشغالها هي بأدوارها المتعددة . إضافة إلى ذلك ، فإن لذا التفوق ما يسنده أيشا في تقافة مجتمعنا ، التي لا تزال تضع الكثير من الحدود لأدوار المرأة. و " مايصح لها وما لايصح". فضلا عن ذلك ، فإن بعض الاجابات أوردت عددا من العوامل الأخرى منها " الوساطة " ، و "المجاملات".

1- 3- 2-  دور المؤسسة ومرجعية  التفسير :
التقت ردود أغلبية المستجوبات على أن للمؤسسة، أيضا، دورها في التأثير المستنتج لعامل النوع الاجتماعي على توزيع الترقيات الوظيفية. وقد اتضح من تحليل الإجابات الواردة في سياق هذا المحور أيضا وجود تصورين لتفسير خلفية هذا التوزيع يعود إلى :
·         بقاء ارتباط القرار بأيدي الرجال.
·         القناعات لدي أصحاب القرار بوجود فوارق معينة وارتباطها بتحديد المسؤولية
·         إهمال المختصين بمتابعة الترقيات
أما مضامين ثاني هذين التصورين فإنها تذهب إلى أن هذا التوزيع يرجع إلى :
·         وجود النساء المحدود وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون للرجال الأولوية في أخذ الأدوار القيادية.
·         بناء النساء الجسماني ككائن بشري يجعل من الصعب تكليفها بإعمال كبيرة. …..
وللبحث في أسس هذا التوزيع في اللوائح الإدارية ، فإن ما يستنتج من إجابات الغالبية يشير إلى أنه لا يوجد في هذه اللوائح ما يمكن أن يفسر من وجهة نظر تأخذ عامل النوع بعين الاعتبار.

2-  طرح رؤساء المؤسسات :
استهدفت الاستمارة الموجهة إلى رؤساء المؤسسات الإعلامية الأربع المختارة في العينة التعرف على الأسس المختلفة لتقسيم العمل داخل هذه المؤسسات الذاتية والاجتماعية والثقافية والمؤسسية ، ومدى تأثير عامل النوع الاجتماعي في تقسيم العمل فيها وإلى مدى يمكن القول بوجود دور لهذه المؤسسات والقائمين عليها في ذلك. وسيتم تحليل ذلك من خلال ثلاثة مداخل أساسية، يتمثل الأول في معايير الاختيار والقبول وهو ما أسميناه بالتوزيع الوظيفي ، والمدخل الثاني عبر توزيع المهام ، أما الثالث فسنقوم بتحليله عبر توزيع الترقيات الوظيفية.

2-1-  توزيع الوظائف :
تمثل دراسة توزيع الوظائف داخل المؤسسات الإعلامية أحد أهم  المداخل في تقصي معايير اختيار المتقدمين للعمل في المؤسسات الإعلامية والتعرف على مدى تأثر تقسيم العمل فيها بعامل النوع الاجتماعي، والبحث عن تفسير لمثل هذا الموقف من قبل المؤسسة إن وجد.
          وقد أجمع المستجوبين من رؤساء المؤسسات الإعلامية الأربع المختارة على أن كل من الكفاءة والتأهيل والخبرة هي المعايير الأساسية التي يعملون بها لاختيار المتقدمين للعمل في مؤسساتهم . لكنهم اختلفوا فيما يتعلق بمعيار النوع الاجتماعي حيث أشار واحد منهم ( سبأ) إلى أن معيار النوع الاجتماعي يؤخذ بعين الاعتبار ، أحيانا، في مستوى التوزيع الوظيفي. وفسر هذا الموقف بعوامل مؤسسية ذات بعد مهني، ترتبط "بطبيعة العمل، التي تتطلب التواجد ليلا وفي أوقات لا تناسب المرأة" . وإذا كان ما يستنتج من مضامين الإجابات يظهر وجود حدود لتأثير عامل النوع الاجتماعي في معايير الاختيار للوظيفة ، فإن مدى تأثيره يبرز بوضوح أكبر من خلال مؤشر توزيع الموظفات على الاختصاصات المختلفة للمؤسسات التي يعملن بها، حيث يستخلص مما ورد في إجابات المستجوبين وجود تركز لعمل الموظفات في بعض الاختصاصات ، على الرغم من اختلاف تقييمهم لهذه المسألة ، والدور الذي تلعبه المرأة والمؤسسة مثلما يتبين في الجدول التالي :

جدول رقم  6   تقييم مدى التركز الوظيفي ودور النساء والمؤسسة فيه
مصدر التأثير   
كبير
متوسط
محدود
المجموع
النسبة
النساء
1
1
0
2
%50
المؤسسة
1
1
0
2
%50
المجموع
2
2
0
4
%100
النسبة
%50
%50
%0
%100


 يشير ما جاء في الجدول السابق إلى أن ردود المستجوبين توزعت بالتساوي بين من يرى منهم بوجود تركز كبير لعمل الموظفات في بعض الاختصاصات ، وبين من يرى أن ذلك التركز متوسط في مداه. غير أن الخلاصة التي يمكن الخروج بها تتمثل في وجود إجماع حول مثل هذه الظاهرة ، وبالتالي حول تأثر التوزيع الوظيفي بعامل النوع الاجتماعي. كما أنه يشير ، في نفس الوقت، إلى أن هذه الردود توزعت بالتساوي أيضا بين من يرجع عوامل هذه الظاهرة إلى النساء ، وبين من يعزو عواملها إلى المؤسسة. 
ويمكن تصنيف مجالات تركز الاختصاصات الوظيفية للنساء وفقا لإجابات المستجوبين في ما يلي  :





جدول رقم : ( 7 )
الاختصاص
التركز
مالية إدارية
كبير
إعلامية صحفية
متوسط
إعلامية تقنية
محدود


          و يعكس تركز عمل النساء في الوظائف الإدارية بجلاء تأثر توزيع الوظائف بالبعد الجندري ، وارتباطه بأبعاد ذاتية واجتماعية وثقافية وكذلك مؤسسية ذات بعد ممارسي لكل من الموظفات ورؤسائهن في العمل، الأمر الذي سنتحقق من صحته في الصفحات اللاحقة.

2- 2- مرجعية التفسير لتركز اختصاصات النساء  :
أما على مستوى تأثير المؤسسة في ذلك ، تضمنت الإجابات تصورين مختلفين ، الأول يقول بوجود تأثير كبير أو متوسط  ، والثاني ينفي وجود أي دور للمؤسسة في تأثر توزيع الوظائف بعامل النوع الاجتماعي.

جدول رقم ( 8 )

كبير
متوسط
محدود
لا يوجد
تأثير المؤسسة
1
1
0
2
تأثير النساء
1
1



ويفسر أصحاب التصور الأول، القائل بوجود دور للمؤسسة، بعوامل ذات بعد مهني مرتبطة، من ناحية، ب"حاجة" بعض وسائل الإعلام  لعمل النساء في مراكز وظيفية معينة، مذيعات وصحفيات وسكرتيرات، وبطبيعة العمل الصحفي الذي يتطلب التواجد والعمل في كل الأوقات وليس له حدود جغرافية معينة، الأمر الذي يمنع أغلب النساء من القيام بها و"تفضيل" وظائف إدارية أو إعلامية غير ميدانية، من ناحية ثانية.
أما أصحاب التصور الثاني الذي ينفي وجود أي دور للمؤسسة في تركز النساء في اختصاصات وظيفية معينة، فإنهم يرون إلى أن ذلك يرجع إلى عوامل ذاتية ومجتمعية مرتبطة بالموظفات أنفسهن تتلخص فيما يلي :
ü   عوامل ذات تتعلق بالبنية الفسيولوجية "الضعيفة" للنساء عامة،التي لا تتحمل القيام بأعمال شاقة مثل حمل كاميرا التصوير والتنقل الميداني والسفر والاحتكاك بالرجال بيسر ودون معوقات، الأمر الذي تتجنبه أغلب النساء لأسباب اجتماعية ودينية. 
ü   عدم القدرة على منافسة الرجال لأسباب فسيولوجية ، ومحاولة البحث عن الإعمال السهلة ذات "العائد المالي الكبير" والتي "تستجيب لخصوصياتهن" .
ü   عوامل مجتمعية ذات بعد اجتماعي، مرتبط  بالوسط العائلي والعادات والتقاليد المهيمنة على الحياة الاجتماعية، وأخرى ذات بعد ثقافي تتمثل في المستوى التعليمي للموظفات والذي يشير ، كما رأينا سابقا، إلى تدني المستوى التعليمي للنساء الموظفات بشكل خاص والنساء في اليمن عامة.

2- 3-  توزيع المهام :
تساعد دارسة توزيع المهام على تكميل دراسة توزيع الوظائف، بالنظر إلى أن بعض الوظائف تتطلب القيام بمهام تستوجب التنقل والسفر والعمل في ظروف مكانية وزمانية مختلفة عن الوظائف الإدارية العادية. وقد جاء في الإجابات عن السؤال المتعلق بالمعايير المتداولة لتوزيع المهام على الموظفين والموظفات، أن معيار الكفاءة يأتي في مقدمة المعايير المطبقة في وسائل الإعلام المدروسة، ويأتي كل من معياري الخبرة والتأهيل في المرتبة الثانية من حيث الأهمية. وأفاد ثلاثة من المستجوبين الأربعة أن عامل النوع الاجتماعي يؤخذ في الاعتبار أحياناً عند تكليفهم لموظفي وموظفات المؤسسة بالقيام بمهام معينة. وتعكس الإجابات السابقة بدورها إلى غموض في معايير توزيع المهام بين الموظفين الذكور والإناث في وسائل الإعلام المدروسة، خاصة وأن من أجاب بعدم الأخذ بمعيار النوع الاجتماعي من القائمين على هذه الوسائل، تناقض  مع نفسه في إجابته للسؤال الخاص بالعوامل وذكر بعضها ، الأمر الذي يمكن أن يشير إلى عدم وجود ثوابت واضحة في التعامل مع هذه المسألة في وسائل الإعلام ، وأن الأمر يتم بصورة عشوائية، ويتوقف على مواقف وتوجهات ذاتية مرتبطة بأصحاب القرار فيها.

2-3- 1- مرجعية تفسير التأثر بعامل النوع الاجتماعي :
يتبين من تحليل نتائج مجموع الإجابات أن التأثر بعامل النوع الاجتماعي في بعض الأحيان، في توزيع المهام في عدد معين من الوظائف، يعود إلى عوامل مختلفة مرتبطة بشكل أساس بالموظفات وبالواقع الاجتماعي. أما المؤسسة فإن إسهامها في ذلك كما ذكر اثنان من المستجوبين فهو محدود ، ومع ذلك  لم يذكر أحد منهما أي تفسير لذلك.. 
أما فيما يتعلق بإسهام الموظفات ،فيتضح من التصنيف العام للعوامل التي قدمت لتفسير ذلك أنها توزعت مثلما هو مبين في الجدول الموالي :

جدول رقم ( 9 )
عوامل تفسير دور النساء في توزيع المهام القائم على النوع الاجتماعي:
العوامل
التكرار
ذاتية
2
مجتمعية
3
دون إجابة
1

تبرز المعطيات الواردة في الجدول أعلاه أن العوامل المجتمعية (الاجتماعية والثقافية)، كانت أكثر العوامل التي تفسر ، من وجهة نظر المستجوبين ، الترابط المستنتج بين تأثر توزيع المهام بعامل النوع الاجتماعي  ودور النساء في ذلك . كما أنها تبرز، في نفس الوقت، وجود عوامل ذاتية تم التطرق إليها في إجابات اثنين من المستجوبين الأربعة، وامتناع واحد منهم من تقديم أي تفسير.
وعند تحليل ما ورد في سياق مضامين العوامل الاجتماعية، يلاحظ أن أغلب ما تم التركيز عليه يتمحور حول مواقف العائلة بأبعاده الثقافية المتعددة، من عمل النساء في أوقات الليل أو السفر في أي مهمة خارج مقر إقامتهن دون "محرم"، والتصورات المغلوطة السائدة حول طبيعة العمل الصحفي، خاصة السمعي البصري،  وما يترتب عليه في نظر البعض من تجاوز للقيم الاجتماعية، بالاختلاط المباشر بالرجال والانتشار والشهرة "غير المرغوبة" بالنسبة للنساء، ثم تأتي أدوار النساء أنفسهن داخل العائلة   خاصة ما يتعلق منها بأدوار الزوجة والأم
والتزاماتها الاجتماعية تجاه الزوج والأطفال ، وما يرتبط بهذه المواقف والأدوار من قيم ونماذج مستمدة من الثقافة السائدة. أما عند تحليل ما احتوى عليه سياق مضامين العوامل الذاتية، فإن ما يلاحظ فيه هو وجود تركيز على بعض العوامل السيكولوجية مثل "عدم الثقة بالنفس" والبحث عن المهام السهلة، وعدم "تحمل النساء القيام بمهام شاقة" لأسباب نفسية وفسيولوجية تتعلق " بكون النساء أكثر حساسية من الناحية العاطفية" وبالتالي "أقل قدرة على السيطرة على النفس".   

2  - 4 -  توزيع الترقيات
يتيح لنا تناول توزيع الترقيات الوظيفية في المؤسسات المدروسة توسيع تحليلنا ليشمل المستوى الثالث من المستويات الرئيسية التي ينبغي عدم إغفالها في دراسة العلاقة بين عامل النوع الاجتماعي وتقسيم العمل . ولتبين ما إذا كانت هناك مؤشرات عن وجود ترابط توزيع الترقيات الوظيفية والجندر، ولذلك تم تضمين استمارة الاستبيان سؤال حول معايير ترقية الموظفين.  وقد حملت الإجابات عدد من المعايير من أكثرها تكرارا ، معيارين أساسيين يعتمدهما القائمون على هذه المؤسسات وهما، الأقدمية والكفاءة، بالإضافة إلى عوامل أخرى ثانوية ذكرت في بعض الإجابات مثل العوامل الذاتية، كالمطالبة الشخصية للترقي والإلحاح. وترتبط الكفاءة حسب تفسيرات أحد المستجوبين بتحقيق إنجازات تخدم المؤسسة الإعلامية، ولم يتم تحديد ماهية هذه الإنجازات مما يترك الأمر مفتوحا لاجتهادات لرؤساء المؤسسات وتقديراتهم الشخصية. أما معيار الأقدمية فكان له الأولية في الإجابات والأكثر تكرارا ( ثلاثة من أربعة )، وتعكس هذه الإجابة تأثر القائمين على وسائل الإعلام المختارة بتصورات تقليدية مهيمنة على نظام الإدارة في اليمن بشكل عام، وعدم الوعي بخصوصية العمل الإعلامي في إطار قوانين الخدمة المدنية واللوائح الإدارية السارية في بقية مؤسسات الدولة.
أما فيما يتعلق بمسألة الأخذ بمعيار النوع الاجتماعي  في الترقي الوظيفي، فقد جاءت جميع الإجابات نافية العمل به.

ثالثا: تقييم الوضع الراهن لتقسيم العمل وآفاقه المستقبلية
سنعمد في هذا القسم إلى تقييم واقع تقسيم العمل المرتكز على عامل النوع الاجتماعي في وضعه الراهن ، من خلال تحليل مقارن لأطروحات رؤساء المؤسسات الإعلامية والعاملات فيها من العينة المستهدفة. كما سنحاول في مرحلة لاحقة وضع تصور لآفاق تقسيم العمل الجندري بناء على تلك الأطروحات ، إضافة  إلى ما تضمنته إجابات أفراد العينة على السؤال الأخير في استمارتي الاستبيان حول عوامل تمكين المرأة والتي يمكن أن تفتح لها آفاق أوسع في المستقبل .

1. تقييم الوضع الراهن ومعوقات الإبداع :

يتسم الوضع الراهن لتقسيم العمل الجندري في وسائل الإعلام اليمنية بتركز النساء في تخصصات مرتبطة بهويتهن الجندرية المرتكزة على الصور النمطية والتصورات التقليدية  المهيمنة في الوعي الجماعي لأدوار النساء الاجتماعية. حيث نجد مثلا أن هناك تركز في الأعمال الوظيفية الإعلامية في  كل من الصحافة المكتوبة (الجمهورية ووكالة سبأ للأنباء) ، بينما تتركز النساء في الصحافة المسموعة والمرئية( إذاعة البرنامج الثاني في عدن ،  وتلفزيون القناة الأولى)، في الأعمال الإدارية ، كالطباعة وأعمال السكرتارية، بالإضافة إلى العمل كمذيعات، الأمر الذي يعزز التصورات السائدة حول أدوار النساء المهنية والاجتماعية، والمهيمنة في طرح كل من رؤساء المؤسسات الإعلامية والعاملات فيها على حد سواء. حيث يتأثر سلوك النساء وأدوارهن في المجتمع،من منظور سوسيولوجي، بالتوقعات المرتبطة ب"نوعها الاجتماعي" إن صح التعبير، أي بالتصورات الجماعية والقيم الثقافية السائدة في المجتمع وخاصة تصورات الآخر/ الرجل.  
أن ما يثير الانتباه  هنا اتفاق كل من طرح رؤساء المؤسسات والعاملات في تفسيراتهم  حول تأثر التوزيع الوظيفي بالعامل الجندري بعوامل ذات بعد مهني ، حيث أجاب رؤساء المؤسسات بأن ذلك يرجع إلى طبيعة العمل الصحفي الذي يتطلب التواجد والعمل في أوقات وأماكن غير محددة ، الأمر الذي يمنع أغلب النساء من القيام بها و"تفضيل" وظائف إدارية أو إعلامية غير ميدانية.
وأجابت أغلب العاملات المستجوبات ، أن قبولهن للوظائف التي يعملن فيها راجع إلى كون ذلك الخيار الوحيد الذي أتيح لهن من قبل المؤسسة التي يعملن فيها ، الأمر الذي  يؤكد أن اختيارات المؤسسة والقائمين عليها تتأسس على اعتبارات ترتبط بعامل النوع الاجتماعي   
وأكد كل من الطريحين على العوامل المجتمعية ذات البعد الاجتماعي، المرتبط  بالوسط العائلي والعادات والتقاليد المهيمنة على الحياة الاجتماعية، وكذا العوامل الأخرى ذات بعد ثقافي المتمثلة في المستوى التعليمي للموظفات والذي يشير ، كما رأينا سابقا، إلى تدني المستوى التعليمي للنساء الموظفات بشكل خاص والنساء في اليمن عامة.
أما في ما يتعلق بالعوامل الذاتية فهناك اختلاف في كل من الطرحين ، فيرى رؤساء المؤسسات أن النساء كائنات ضعيفة وفاقدات للثقة بالنفس وغير قادرات على منافسة الرجال في جميع المجالات .
ويعكس الطرح السابق ، خاصة ذلك المتعلق بالعوامل الذاتية حقيقة تصورات هذه القيادات الإعلامية بأدوار النساء والصورة النمطية للنساء المسيطرة على تفكيرهم وسلوكهم ، الأمر الذي يدلل على هيمنة ثقافة الآخر /المذكر على قيم العمل وآليات اشتغال مؤسسات الإعلام اليمنية، والتي تفضي إلى ممارستهم لنوع من العنف الرمزي ضد النساء ، حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. أما طرح العاملات فيركز على الأبعاد الموضوعية مثل المؤهل العلمي والتخصص والخبرة، والشخصية مثل الطموحات والميول
كما تبين من تحليل نتائج مجموع الأطرحات السابقة أن عامل النوع الاجتماعي  يؤثر بصورة كبيرة على توزيع المهام في عدد معين من الوظائف بالمؤسسات الإعلامية التي شملها البحث، مثل الوظائف التقنية والصحفية  . ويدلل هذا الإجماع في أطروحات كل من رؤساء المؤسسات والنساء العاملات على غموض في معايير توزيع المهام بين الموظفين الذكور والإناث في وسائل الإعلام المدروسة، خاصة وأن من أجاب بعدم الأخذ بمعيار النوع الاجتماعي  من القائمين على هذه الوسائل، تناقض  مع نفسه في إجابته للسؤال الخاص بالعوامل وذكر بعضها، الأمر الذي يمكن أن يشير إلى عدم وجود ثوابت واضحة في التعامل مع هذه المسألة في وسائل الإعلام، وأن الأمر يتم بصورة عشوائية، ويتوقف على مواقف وتوجهات ذاتية مرتبطة بأصحاب القرار فيها.
ويتضح من التصنيف العام للعوامل التي قدمت لتفسير ذلك أن أغلبها  تتمحور في العوامل المجتمعية والذاتية التالية :
q      مواقف العائلة وأبعاده الثقافية المتعددة من عمل النساء في أوقات الليل أو السفر في أي مهمة خارج مقر إقامتهن دون "محرم".
q   التصورات المغلوطة السائدة حول طبيعة العمل الصحفي، خاصة السمعي البصري،  وما يترتب عليه في نظر البعض من تجاوز للقيم الاجتماعية، بالاختلاط المباشر بالرجال والانتشار والشهرة "غير المرغوبة" بالنسبة للنساء. 
q    أدوار النساء أنفسهن داخل العائلة  خاصة ما يتعلق منها بأدوار الزوجة والأم والتزاماتها الاجتماعية تجاه الزوج والأطفال ، وما يرتبط بهذه المواقف والأدوار من قيم ونماذج مستمدة من الثقافة السائدة.
q   عوامل سيكولوجية مثل عدم الثقة بالنفس والبحث عن المهام السهلة، وعدم "تحمل النساء القيام بمهام شاقة" لأسباب نفسية وفسيولوجية تتعلق " بكون النساء "أقل قدرة على السيطرة على النفس".   
أما في إطار المستوى الثالث من مستويات تحليل تقسيم العمل الجندري يتضح وجود تباين كبير في أطروحات المستجوبات من النساء والمستجوبين من رؤساء المؤسسات ، حيث نفى الطرح الأخير وجود أي ارتباط بين الترقي الوظيفي وعامل النوع الاجتماعي ، بينما كشف تحليلنا لأطروحات المستجوبات في المحور السابق ، عن وجود ترابط بين  توزيع الترقيات الوظيفية والجندر ، حيث لا توجد سوى نسبة صغيرة منهن يشغلن بعض المناصب الإدارية.
يرى العدد الأكبر من المستجوبات أن للنساء دور في تأثر توزيع الترقيات الوظيفية بعامل النوع الاجتماعي. ويستنتج من مضامين إجاباتهن على أن عوامل التفسير تتركز أساسا في العوامل الذاتية والمؤسسية المرتبطة باللوائح ومدى تنفيذها من قبل اصحاب القرار في المؤسسات الإعلامية والتصورات المهيمنة عليهم حول قدرات النساء المحدودة. وتأتي العوامل ذات المرجعية الاجتماعية – ثقافية في مرتبة ثانية ، والتي تدفع النساء إلى التخوف من الترقيات ورفضها أحيانا، كي لا يصبحن عرضة للشبهات والشائعات من أن هذه الترقيات ترجع إلى علاقات شخصية، كإناث، مع أصحاب القرار من الرجال. وهناك عوامل مفسرة أخرى عديدة مثل :
-         إحساسهن بأنهن مهمشات واستسلامهن للأمر الواقع.
-    الأدوار الاجتماعية السائدة في المجتمع للنساء وما تتطلبه من أعباء "تجعل الرجل متفوقا على المرأة بحكم عدم تحمله مسؤوليات داخل المنزل وتفرغه للعمل المهني" ،
-    المستوى التعليمي المتدني للنساء مقارنة بزملائها الرجال والذي يطرح عليها أحيانا إشكالات أمام الترقية الوظيفية. 
كما التقت ردود أغلبية المستجوبات والمستجوبين على أن للمؤسسة، أيضا، دورها في التأثير المستنتج لعامل النوع الاجتماعي  على توزيع الترقيات الوظيفية. وتم تفسير ذلك بعدة عوامل منها :
-         بقاء ارتباط القرار بأيدي الذكور.
-         القناعات لدي أصحاب القرار بوجود فوارق معينة وارتباطها بتحديد المسؤولية
-         الفساد الإداري والمالي المنتشر وإهمال المختصين بمتابعة الترقيات
-          العدد المحدود للنساء العاملات  ، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون للرجال الأولوية في أخذ الأدوار القيادية.
وتذكر الباحثة د. رؤوفة حسن أنه بالرغم من أن قانون الخدمة المدنية لا يفرق بين الموظفين حسب جنسهم في الحصول على الوظائف والترقي إلا أن هناك عدم مساواة في مستوى الممارسة . فخلال فترة طويلة امتدت منذ الأربعينات ، تاريخ إنشاء أول إذاعة في اليمن وظهور الصحافة الحقيقية، وحتى يوم الناس هذا لم تصل سوى امرأة واحدة إلى منصب قيادي في أحد وسائل الإعلام اليمنية ،وهو منصب نائبة مدير عام البرامج في التلفزيون – قناة اليمن الأولى [8]. ولم يكن منصبا له صلاحيات واسعة ومستقلة بل كان مساعدا فقط  للرجل . فحتى الدور القيادي الوحيد هنا كان دورا ثانويا. ونجد في الوقت الراهن، أن أغلب الموظفات في وسائل الإعلام المختارة في العينة يحتلين مراتب وظيفية متدنية، وتتولى اثنتان فقط منصب مدير إدارة وثلاثة عشر رئيسة قسم والغالبية في مراتب وظيفية متدنية الثالثة وما دون ذلك.  
وخلاصة يمكن القول بأن النساء يتعرضن لما يمكن يسمى بالعنف الرمزي عبر تقسيم العمل المرتكز على معيار النوع الاجتماعي  في المؤسسات الإعلامية اليمنية الأمر الذي يؤثر على مستوى أدائها ومضامين رسائلها الإعلامية خاصة فيما يتعلق بصورة النساء وأدوارهن المختلفة. وبالتالي يتم من خلال هذا النمط من تقسيم العمل ومن ممارسة العنف الرمزي ضد النساء، إعادة إنتاج البنى الذكورية  الطابع المهيمنة الحياة المهنية والاجتماعية.

2. تقييم التصورات المستقبلية :
يتجه طرح العينة من رؤساء المؤسسات الإعلامية فيما يتعلق بعوامل تحسين الوضعية المهنية للنساء العاملات في وسائل الإعلام اليمنية ، إلى التاكيد على أن الاهتمام بتدريب النساء وتأهيلهن في جميع التخصصات ذات العلاقة بالعمل الإعلامي كفيل بضمان مستقبل مهني أفضل لهن، يجعلهن أكثر قدرة على المنافسة والتمكن في هذا الميدان. لكنهم في نفس الوقت يدعون إلى أهمية مراعاة الجوانب الاجتماعية المتعلقة بالنساء أنفسهن ومتطلباتهن، من ناحية ، وتلك ذات العلاقة بالقيم والمواقف الاجتماعية السائدة. ويربط  طرح أغلب المستجوبين بإمكانية حدوث أي تطور أو تغير للأفضل في إمكانيات النساء وتحسن أوضاعهن المهنية باستعدادهن الذاتي لذلك ومدى إدراكهن بأهمية ذلك في تطوير العمل الإعلامي ، وبقدرتهن على تحدى العقبات والتعقيدات الاجتماعية والنفسية التي جبرت عليها منذ الطفولة .  ويشير هذا الطرح إلى سيطرة التصورات التقليدية الراهنة المهيمنة على تصورات المستجوبين المستقبلية.
وبناء على ماسبق صار من الضروري إعادة النظر في تقسيم العمل الراهن والسائد في وسائل الإعلام اليمني لضمان تحقيق أي تقدم في هذا الميدان في مستوى الإنتاج والإبداع.والأمر في النهاية يتوقف على صانعي القرار وإدراكهم بأن إنصاف النساء هو الطريق الأمثل لتمكنهن. وأي تغيير لوضع النساء المهني نحو الأفضل مرتبط بإحداث في تغيير في تصورات القائمين على المؤسسات وأصحاب القرار من الذكور حول عمل النساء وقدراتهن. كما أن استحقاق التمكن يتطلب من النساء السعي والاجتهاد عبر التعليم والتجربة وتحدي المعوقات، والإصرار على فتح آفاق جديدة للمستقبل.









الخاتمة
تناول موضوع البحث مسألة تقسيم العمل في المؤسسات الإعلامية اليمنية من منظور النوع الاجتماعي، وعلاقته بفرص العمل المهنية والإبداع لدى النساء العاملات فيها ، مقارنة بالرجال. واستندت مضامينه على عينة ممثلة مستمدة أساساً ، ولاعتبارات متعددة ، من المؤسسات الإعلامية الرسمية. وعلى الرغم مما لوحظ من اختلافات في التقييم سواء في إطار طرح الموظفات أو في إطار طرح رؤساء المؤسسات ، فإن الاستنتاج العام الذي يتضح من سياقات التحليل يشير إلى أن تقسيم العمل في المؤسسات المدروسة يتأثر بعامل النوع الاجتماعي، وأن مؤشرات هذا التأثر تبرز على مستوى توزيع الوظائف ، مثلما تبرز على مستوى توزيع المهام، ومستوى توزيع الترقيات الوظيفية ، وأن تأثر تقسيم العمل بعامل النوع الاجتماعي في جميع مستوياته يكرس سيطرة الرجال على العمل المهني الإعلامي. وبالنتيجة فإن الفرص المتاحة للنساء لمنافسة الرجال في العمل الإعلامي وتقديم أعمال متميزة وتطوير العقل المبدع لديهن، هي ضئيلة وتقف أمامها معوقات عديدة في مختلف المستويات. كذلك ، وبقدر ما ظهر من تباين في الرؤى والتصورات حول تفسير واقع هذا التأثير ومظاهره وخلفياته، فإن تعبيرات ذلك تبين لنا أننا أمام مسألة مركبة تتداخل فيها خصوصاً العوامل الذاتية (الخاصة) ، والعوامل المجتمعية (الاجتماعية والثقافية) ، والعوامل المؤسسية .
  والخلاصة التي يمكن الخروج بها من الأطروحات السابقة، أن النساء في اليمن، بوجه خاص، وفي العالم العربي على وجه العموم لديهن من القدرات الإبداعية ما يؤهلهن للمشاركة الفاعلة في تنمية المجتمعات العربية وتطويرها، إلا أن الاستفادة من تلك القدرات الإبداعية رهن بعوامل اجتماعية وثقافية ومؤسسية مختلفة ومتفاوتة من مجتمع إلى آخر، الأمر الذي يتعين على المجتمع، بمؤسساته وأفراده رجالا ونساء، العمل الدءوب والمخلص للتغلب على كل ما يعترض رعاية وتنمية قدرات النساء الإبداعية باعتبارها مكملة لقدرات الرجال، ولا يستطيع الرجال الادعاء بتفوقهم في أي مجال بمعزل عن مؤسسات المجتمع وثقافته السائدة، غير أن ذلك يتطلب بدوره تحرير العقل العربي من التصورات الذهنية السلبية تجاه أدوار النساء والعلاقة بين الرجال والنساء..  ومن وجهة نظر سوسيولوجية، فإن خبرات المرأة وسلوكها، بشكل عام، وأعمالها الإبداعية على وجه الخصوص، تتأثر بالتوقعات المرتبطة بجنسها، وجنس المرأة لا يمكن أن ينفصل عن جنس الرجل، فلا وجود لأي منهما دون الآخر ، وبالتالي فإن إبداع المرأة وسلوكها بشكل عام يتأثر بخبرات وسلوك الرجل ...

لقد تركت تحولات العقود الأخيرة بصماتها على حياتنا وعلى النمط التقليدي لتقسيم العمل في مجتمعنا. ومع ذلك ، فإن هذا البحث قد أسهم في تقديم دراسة عينية قطاعية حول صيرورة هذه التحولات وتأثير واقعنا المعاصر وامتدادات الماضي عليها. ولكي نسهم بالدفع بهذه الصيرورة في اتجاه تحسين الوضع المهني للنساء ، وصولا إلى إنتاج نسائي متميز ومبدع، فإن ما ذكر ضمن هذا السياق في إجابات العاملات ورؤساء المؤسسات يقدم لنا بعض عناصر التفكير. غير انه، يمكن القول من منظور عام، أن التفكير في تحسين الوضع المهني للنساء وتطوير العقل المبدع لديهن في قطاع الإعلام والقطاعات الأخرى، يتطلب عدم تجاهل تنوع العوامل التي تؤثر على هذه الصيرورة بأبعادها المختلفة، وكذا تعميق بلورة مظاهرها من خلال إجراء البحوث العينية القطاعية. كما أن مثل هذا التفكير يتطلب الابتعاد عن كل من نزعة القطيعة الثأرية مع كل ماله صلة بموروثنا التاريخي وانتماءنا الثقافي والحضاري، وعن نزعة إعادة الإنتاج المستسلمة التي لا تنظر إلى حاضرنا وتتجاهل مستقبلنا.

الهوامش :




[1] Ferréol Gille et autres, Dictionnair de la Sociologie, éd. Armand Colin, Paris 1991, PP. 66-67.

[2] حول عامل النوع الاجتماعي  والعوامل الأخرى ، أنظر :
 - د/ الأدهم عبداللطيف ، صورة المرأة في الصحف اليمنية، رسالة ماجستير في علم الاجتماع ، جامعة تونس الأولى، 1990 .
 - د/ الأدهم عبداللطيف، الأنتلجنسيا اليمنية: النشوء والتطور (مقاربة سوسيولوجية)، أطروحة دكتوراة غير منشورة، جامعة تونس الأولى، 1998.
[3] الإحصاء السنوى لعام 1998 ، الجهاز المركزي للإحصاء ، صنعاء 1999 .
[4] السوسوة أمة العليم ، المرأة اليمنية في أرقام ، منشورات اليونسيف ، الطبعة الثانية، صنعاء، 1996 ، ص 21.
[5] نفس المصدر : ص 61
[6] العزب يحيى ، المرأة العاملة في التلفزيون اليمني – القناة الأولى 1975-1997م ، بحث تخرج للدبلوم في الدراسات النسوية، مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية- جامعة صنعاء ، 1997 .
[7] كشوفات مرتبات العاملين والعاملات في التلفزيون لشهر يوليو 1999.
[8] الشرقي ، رؤوفة حسن ، "المرأة في الإعلام والتشريعات القانونية"، متابعات إعلامية ، العدد 36 – 38 ، مارس 1994