الأربعاء، 4 مايو 2011


 الإعلام وقيم التسامح




يقول سبحانه وتعالى :

 " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"[i]

 صدق الله العظيم



1. مقدمة:


ماهي طبيعة العلاقة السائدة في الوقت الراهن بين الوسائط الإعلامية المتعدة وثقافة التسامح ؟ هل يكرس الإعلام الجماهيري قيم التسامح أم يروج لقيم العنف والتعصب؟ وكيف يمكن صياغة خطاب إعلامي يروج لثقافة التسامح ويعزز سماحة القيم المجتعية وسبل الحوار بين المجموعات الاجتماعية المختلفة في ظل إختلاف المرجعيات وتعدد الثقافات؟   
 إن الخطاب الإعلامي العربي الراهن، بتنوعه واختلافه، يتضمن مؤشرات واضحة تقود إلى افتراض أولي- يحتاج إلى دراسة معمقة- مفاده ان الإعلام العربي، وسائط وخطاب، يكرس قيم العنف والصراع والكراهية بين المجموعات الاجتماعية والثقافات المحلية من جهة ونحو الآخر – الغربي بالتحديد- أكثر مما يروج لثقافة التسامح والحوار والسلام... وهناك العديد من العوامل، سياسية واقتصادية وفكرية ومهنية، التي تقف وراء هذا التوجه من أهمها ضعف القدرات المهنية للقائمين بالاتصال وضعف التواصل المباشر بالآخر / المتلقي المعني بالاتصال في الخطاب، حيث تخضع عملية إنتاج وبث الرسائل الإعلامية لاعتبارات عديدة سياسية واقتصادية ومهنية واجتماعية ونفسية ...الخ.
وهذه المحاولة، في حدود المساحة المتاحة للنشر، ترمي إلى مقاربة إشكالية الصلة القائمة بين الإعلام، وسائط وخطاب، والتسامح، قيم وسلوك. ومنذ البداية كان لا بد من التنبه إلى أن الدخول في مقاربة كهذه يُوجب مغادرة التجريد والتعامل معها بوصفها مسألة نسبية وراهنة وحيوية.

2. الإعلام ونظام القيم:

يمثل الاعلام عنصراً مؤثراً في حياة المجتمعات باعتباره الناشر والمروج الأساسي للفكر والثقافة، ويسهم بفاعلية في عملية التنشئة الاجتماعية للافراد إلى جانب الأسرة والمؤسسات التعليمية المختلفة بل إنه في كثير من دول العالم أحد منتجي الثقافة عن طريق التفاعل والتأثير الإنساني المتبادل. وفي السنوات الأخيرة اكتسبت وسائط الاعلام، باختلافها، أبعاداً جديدة زادت من قوة تأثره على الأفراد والجماعات وقد ثبت بالتجربة أن الإعلام في زمن العولمة تحول في ذاته ومخرجاته إلى "قيمة أخلاقية، الأمر الذي أكسب رسائله سلطة معرفية مؤثرة توجه وترشد، كما تفكك العقول وتعيد تركيبها في إطار صراع القوى والمصالح"[ii] بهذا المعنى امتلك تلك السلطة والقوة في تشكيل المعرفة وتوجيه السلوك الإجتماعي، سلباً وإيجاباً خيراً أو شراً.
كما تحول الإعلام بوسائطه المختلفة من مجرد ناقل للأخبار وناشر للمعلومات إلى مؤسسات اجتماعية وثقافية؛ من خلال بناء علاقة تواصلية مع أفراد المجتمع أكثر عمقا وتعقيدا من مجرد الإعلام وإعادة "إنتاج الثقافة" عبر إقامة علاقات اجتماعية مع الجمهور المتلقي؛ وذلك من خلال تعزيز الثقافة السائدة أو المهيمنة والترويج لقيم مجتمعية معينة...   
لقد صار كل شيء في العالم مفتوحاً بلا حدود في زمن الفضائيات وشبكات الانترنت ولم يعد هناك ما يعصم الإنسان من الاستسلام لجاذبية اللغة، وسحر الصوت، ودهشة الصورة، سوى انتمائه وتحصنه بقيمه الإنسانية النبيلة التي يستدمها من قيمه الدينية وثقافته الوطنية. غير أن هذا كله يتوقف على آليات صراع شديدة التعقيد، سيكون على الأقوياء والضعفاء خوض حرب لا هوادة فيها.
  في هذا الإطار تتشكل العلاقة بين الإعلام وقيم التسامح. فالتسامح كقيمة مجردة او مفهوم نظري لا يولد مع الإنسان ولا تختص به ثقافة ما دون غيرها وإنما يكتسبه الإنسان عبر وسائط متعددة منها الوسائط الإعلامية... 

3. الإعلام والتسامح: إشكالية المفاهيم 

  

 يبدو أن مفهوم التسامح لا زال محل جدل، على الأقل من الناحية اللغوية، في إطار الثقافتين العربية  والغربية ولسنا هنا في صدد هذا البحث. ولكن لاعتبارات منهجية يجب أن تكون لغة الخطاب هنا واضحة ومحددة لتيسير الحوار وتأطيره. ومن هذا المنطلق سنتجاوز كل الأدبيات والمرجعيات للذهاب مباشرة إلى الأدبيات الدولية، كمرجعية قانونية اساسية فضلاً عن انها تشكل القاعدة أو نقطة الالتقاء بين مختلف الثقافات.. ومن أهم المراجع في هذا الصدد نجد اعلان المبادئ بشأن التسامح الذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو في 16 نوفمبر 1995م، حيث نصت المادة الأولى من الإعلان على أن "التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا (...)، وهو موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالمياً"[iii]. ولتوضيح العلاقة المتداخلة وعدم التعارض بين مبادئ التسامح ومبادئ حقوق الإنسان أكد الإعلان على أن ممارسة التسامح" لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم.
إذا يمكن القول بأن المعنى المقصود بكلمة التسامح في هذا السياق هو " الوئام في سياق الاختلاف"[iv]، من خلال البحث عن أرضية مشتركة وثوابت تبعث على الاطمئنان من أجل الوصول إلى الحقيقة التي تقف في ثنايا الكليات. أما الأدوات والوسائل الفاعلة الكفيلة بنشر وتعزيز ثقافة التسامح بين البشر فتتركز بالنسبة إلى الإعلان في " المعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد"[v]. وهنا ألقى المجتمع الدولي على عاتق الإعلام مسؤولية كبيرة في نشر قيم التسامح والتفاهم بين الأفراد والجماعات. ففي حين دعا البند الثالث من المادة الخامسة من الإعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري[vi]، وسائل الإعلام الجماهيري والمهيمنين عليها والعاملين في خدمتها وجميع الفئات المنظمة داخل المجتمعات الوطنية على العمل على تعزيز التفاهم والتسامح والود فيما بين الأفراد والجماعات، دعت المادة الرابعة من إعلان اليونيسكو بشأن التسامح ٍوسائل الإعلام إلى أن تسهم "بدور أساسي في تربية الشباب بروح السلام والعدالة والحرية الاحترام المتبادل والتفاهم، بغية تعزيز حقوق الإنسان والمساواة في الحقوق بين جميع البشر وجميع الأمم والتقدم الاقتصادي والاجتماعي. ولها أيضاً دور هام تؤديه في التعريف بوجهات نظر الجيل الناهض وتطلعاته"[vii].
 وبناء على ذلك نجد أن التعليم والإعلام، بمفهومه الشامل، هما السبيلان الأكثر فعالية   لنشر وتكريس قيم التسامح بين الناس والحيلولة دون انتشار قيم العنف والتعصب والتطرف. وأول خطوة في هذا الطريق هي تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها. ولذا لزم التشجيع على اعتماد أساليب منهجية عقلانية لتعليم التسامح تتناول أسباب اللاتسامح الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية- أي الجذور الرئيسية للعنف والاقصاء، بحيث تسهم الرسائل الإعلامية في تعزيز التفاهم والتضامن والتسامح بين القائمين على الاتصال أنفسهم من جهة وانعكاس ثقافة التسامح في السلوك الاتصالي الفردي والجماهيري بين المجموعات الاثنية والاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية وفيها بين الأمم.
ولمقاربة الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في نشر قيم التسامح والحوار وإعادة  صياغة خطاب العنف السائد، سنعمد إلى تحليل نموذجين من المعالجات الإعلامية لحدثين رئيسيين: الأول ذات بعد دولي الصورة كانت فيه الفاعل الأساس والثاني ذات بعد محلي اعتمد على الكلمة...

4. خطاب الصورة: النموذج الدولي
بغض النظر عن مأساوية حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001م في نيويورك وضخامته وأبعاده فقد كان حدثاً إعلامياً لا مثيل له في تاريخ الإنسانية... حينها وقف المشاهدون في كل مكان في العالم مشدوهين ومأخوذين بما تنقله لهم قنوات التلفزيون بلغة عالمية واحدة وهي لغة الصورة، فهل ما يشاهدونه مشهداً حقيقياً يحدث في الواقع أم عملاً دراميً من أ عمال هوليوود، خاصة أن نقل الحدث تم بالتصوير من أكثر من زاوية وبطريقة دراماتيكية وكأننا بصدد متابعة سيناريو دقيق لعمل تلفزيوني معد سلفاً للحدث من قبل صانعيه؟ وقبل البدء في جمع الأدلة والقرائن عن الجناة شرعت بعض وسائل الإعلام في شتى أنحاء العالم في حملة تحريض وكراهية ضد الإسلام والمسلمين وكل ما له صلة بالعرب من قريب أو بعيد. فاعتبر إرهابياً:
·        كل عربي أو مسلم كان على متن الطائرات المهاجمة.
·        كل من درب أو درس الطيران من الضحايا.
وهكذا أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية الحرب على "الإرهاب" المزعوم وروجت لقيم الكراهية ومارست أبشع أشكال العنف الإعلامي، ومهدت الطريق للرئيس الأمريكي لإعلان الحرب ووضع العالم أجمع أمام خيارين لا ثالث لهما، بصورة يكتنفها التهديد وتغلفها الغطرسة، "من ليس معنا في هذه الحرب فهو ضدنا"…
في الطرف الآخر (العربي والإسلامي) لوحظ أن الفضائيات العربية وبعض الإسلامية استنفرت آلتها الإعلامية في محاولات مضطربة لاستثمار الحدث إلى أبعد مدى بغض النظر عن تأثير ذلك على المشاهدين والمتلقين في مواقفهم وتصوراتهم للمسألة، خاصة على المدى المتوسط والبعيد... "فكانت محاولات يائسة من الطرف الضعيف للدفاع العشوائي والتوضيح والتفسير والتحليل الذي بلغ في بعض الأحيان حد النفاق الرخيص"[viii]
والسؤال المطروح هنا، هل كان يمكن أن يكتسب الحدث نفس الأهمية وأن يتغير مجرى التاريخ ويحدث ما حدث من مواقف وردود أفعال لدول وشعوب ومنظمات وما تلاها من أحداث على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية لو لم يتم نقل تطورات الحدث تلفزيونياً إلى جميع أنحاء العالم؟ وما هو الدور الحقيقي الذي لعبه الإعلام في صناعة الحدث أو التحريض له قبل حدوثه والترويج له أثناء حدوثه بشكل مليء بالإثارة لم يسبق في التاريخ الإعلامي، واستثماره وتوظيفه لأغراض مختلفة بعد حدوثه؟
وبالنظر إلى المعالجات الإعلامية المختلفة لحدث الحادي عشر من سبتمبر نجد أن الإعلام لم يعد في هذه اللحظة التاريخية مجرد عامل من عوامل التغيير التي تساهم في قلب أو تثبيت موازين القوى بين الدول أو داخل المجتمعات بالذات، بل غدا هو العامل الرئيس الذي تتجلى فيه وبواسطته غالباً، العوامل الأخرى، الأمنية والاقتصادية والسياسية وسواها، وأنه قد تحول إلى وعاء كلي تختزل فيه أدوات الصراع والمنافسة والتحدي في صورة مدهشة. الإعلام المتلفز هنا تحول إلى قوة أيديولوجية ضارية تتولى بدورها عمليات تأثير وإقناع واسعة النطاق بعيدة كل البعد عن مصلحة الإنسان في كل مكان.… مثل هذا التوظيف الأيديولوجي للإعلام دفع بعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو إلى الاعتقاد بأن وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون،" تخلق إدراكاً وهمياً للعالم الحقيقي"[ix]، بدلاً من تقديم دائرة أوسع من المعارف ومجموعة من الآراء للاختيار فيما بينها، وأنها تتسبب في الاغتراب الثقافي والتنميط الاجتماعي عن قصد أو عن غير قصد. وتظهر الكثير من الأحداث والوقائع في أكثر من مكان في العالم أن الوظائف الاتصالية والأخبارية التي يؤديها الإعلام، وهو ما عبر عنه ريجيس دوبريه بالميديولوجيا، لا تخلو من مضامين وابعاد أيديولوجية[x] .

5. خطاب الكلمة: النموذج المحلي
            اتسم الخطاب الإعلامي اليمني، المكتوب على وجه الخصوص، بالتعبئة العاطفية شديدة العمومية والبعيدة عن المعايير المهنية الصحفية فيما يتعلق بالشأن الأمريكي وبسياسات الإدارة الأمريكية الحالية تجاه ما تصفه "الحرب على الإرهاب"… فكان الخطاب السائد مجرد ردود أفعال وصدى مشوش لفعل الخطاب الإعلامي الغربي والأمريكي على وجه الخصوص… ولعبت الصحافة بشتى ألوانها السياسية ومقاصدها وباختلاف لهجاتها وعناوينها، نفس الدور التحريضي الذي لعبته وسائط الاتصال التقليدية كالمساجد والمؤسسات التعليمية، ضد كل ما يمت بصلة "للشيطان الأكبر".. وكان الخطاب لا يميز في لغته بين الإدارة الأمريكية والشعب والمؤسسات الأخرى كما يساوي في دعواته المسلم الأمريكي بمواطنه اليهودي والمسيحي والعلماني بغض النظر عن مواقفه السياسية وقناعاته الفكرية وأصوله العرقية..
ذلك الخطاب الذي اتصف بالعشوائية والانتهازية في كثير من الأحيان، كرس القيم المناهضة للتسامح والحوار بين المجموعات السياسية والاجتماعية المحلية من جهة وبين  الثقافات المختلفة- الإسلامية والغربية - من جهة أخرى، وساهم في رفع درجة السخط لدى المتلقي اليمني ليس فقط ضد سياسات الإدارة الأمريكية في المنطقة، بل وضد كل ما يحمل الصفة الأمريكية، الأمر الذي ساهم في تعزيز قيم التطرف والتعصب والكراهية لدى فئة من الشباب اليمني وخلق مناخاً ملائماً لهم للتشريع للقتل من منطلقات دينية والبدء في عمليات  إرهاب للآخر عبر تنفيذ عدد من الجرائم منها اغتيال جار الله أحد الرموز السياسية المعارضة وقتل ثلاثة من الأطباء الأمريكيين العاملين في مستشفى جبلة منذ سنوات طويلة... 
وبقي السؤال المطروح هو : كيف وصل أولئك الشباب إلى تلك القناعات الفكرية بتشريع القتل وتنفيذه رغم تعارض ذلك مع القيم الإسلامية التي يزعمون الإيمان بها؟ وما الحجم الحقيقي للدور الإعلامي في المسألة ؟
بغض النظر عن التفسيرات المختلفة للسلوك العدواني المكتسب لدى الأفراد إلا أن لسبل التنشئة الاجتماعية تأثير كبير في سلوك الإنسان العربي العدواني والعنيف. والانسان عندما يتعلم عن طريق المشاهدة، عبر التواصل المباشر أو عبر شاشات التلفزيون أو ما يترسخ في خيال المتلقي من الرسائل المكتوبة والمسموعة، فإنه ينتج سلوكه على أساس ما استنبطه في وعيه أو يشاهده من يقتدي به.. وان الإنسان يقلد الإنسان الذي يشبهه أو الاقرب إليه .. إذ كلما ازداد تشابه النموذج مع المشاهد (المقلد) ازدادت نسبة تقمص النموذج ولهذه النظرية أسس تقوم عليها. إذ يستنتج من يبحر في تجارب القائلين بها أن لغة العنف سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية تعمل على استثارة الشعور العدواني عند الأفراد المتلقين. وهؤلاء عندما يواجهون ظرفاً مناسباً فيما بعد، يحاولون تطبيق ما استنبطوه وتأثروا به في الواقع الذي يعيشون فيه. وهناك جملة من الدلائل التجريبية والكثير من الدراسات الأنثروبولوجية التي تؤكد ذلك التمشي.
إن الوسائط الإعلامية تحتل مكانة مهيمنة في فضاء الاتصال الجماهيري يوفر اليوم مادة إنتاج ثقافي وفكري غزير، وبالتالي شكلت سلاحاً ذو حدين بكل ما تعنيه الكلمة، فأحياناً تكون فضاءات لنشر قيم الفضيلة والتسامح والحوار وأدوات بناء لمستقبل أفضل، وفي نفس الوقت يمكن أن تلعب دوراً هداماً كوسائل لنشر قيم العنف والتعصب وبث الفتنة وتكريس الكراهية والمشاعر العدوانية بين الثقافات وبين المجموعات الاجتماعية. فهذه الوسائط باتت اليوم تنافس مؤسسات المجتمع التقليدية مثل المدرسة والأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية. حيث يتعلم الناس من البرامج والصحف أكثر مما يتعلمون من المدرسة.
مما سبق طرحه في الحالتين السابقتين، وفي سياق المقاربة السوسيو- اتصالية، يمكن أن نستخلص جملة من العوامل التي أسهمت، بصورة مباشرة وغير مباشرة، في صياغة الخطاب الإعلامي حول أحداثها ومواضيعها، ووجهت مساره في اتجاه تكريس قيم التعصب والبغضاء لدى المتلقين:
·   الوضع السياسي والاقتصادي العالمي وطبيعة التحولات الجارية في العالم منذ نهاية الحرب الباردة وثنائية الصراع بين قوتين عظميين وأيديولوجيتين إلى إنفراد قوة وحيدة في العالم بالهيمنة عليه...
·   تحكم رأس المال في وسائل الإعلام واعتبار العمل الإعلامي عمل تجاري بحت غايته الربح المادي بغض النظر عن الوسائل والمضامين...
·        التطور التكنولوجي لوسائط الاتصال ومعالجة المعلومات والصور.
·   الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في الكثير من بلدان العالم العربي وتفشي ظواهر مثل الفقر البطالة بين السكان بنسب عالية...
·   الاخفاقات السياسية لكثير من انظمة الحكم العربية وانحسار هامش الحريات وزيادة الضغوط في بعض الدول العربية...
·   الفراغ الفكري وعدم وضوح الرؤية في ظل غياب لمشروع حضاري واضح المعالم وسط التحولات الفكرية والأيديولوجية الكبرى على المستوى العالمي والإقليمي والوطني..
·   ضعف القدرات المهنية للقائمين على الاتصال وتداخل المهام في إطار المؤسسة الواحدة (سياسية، أمنية، اقتصادية، إعلامية ...الخ)

6. الخيارات المتاحة:
من الصعب الإدعاء بإمكانية التأسيس لخطاب إعلامي مثالي أخلاقياً من دون مشقة، إلا أنه غير مستحيل إذا ما تم التعامل مع المسألة والنظر إليها بوصفها إشكالية تتجاز النطاق المحلي وحدود السيادات الوطنية. أي بوصفها إشكالية عالمية، تتعلق أولاً وأساساً بضرورة تشييد نظام قيم عالمي جديد يقوم بطبيعته على توازن ما في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع الإنساني.
هل يمكن ذلك؟ لو سلمنا بإمكانية حدوث هذا الأمر، فسوف نقع في تجريد ساذج. ذلك أن عالماً تضبطه معايير القوة ولذة الامتلاك وحب السيطرة لا يمكن ان يكون منتجاً لما لا يمتلكه وما لا طاقة له به، وفاقد الشيء لا يعطيه.
إن الشرط المبدئي لقيام نظام قيم راسخ على النطاق العالمي، يتأسس على توفر توازن بين قوى المجتمع الدولي وأقطابه وعوالمه المتعددة. وحتى يصير هذا الشر اقعياً فلا بد أن يسبق التوازن حدوث تحولات ضرورية في نسبة القوى الدولية بما يؤدي إلى ضرب من ديمقراطية أممية أساسها الاعتراف بمبادئ العدالة والسيادة وحقوق الإنسان اعترافاً عملياً. وإن كان من الصعب تحقيق مثل هذا الشرط " الطوباوي" بالنظر إلى منطق التطور العالمي المعاش، إلا أنه من المتاح البدء بالعمل على تحقيقه في نطاق المجتمعات المحلية.
وعليه، فإنه يجب البدء في خلق بيئة ملائمة من داخل المجتمعات نفسها قبل الانتقال إلى مستوى أكبر واوسع. وهذا يقتضي منا، في المجتمعات العربية بالخصوص، أن ندرس أخلاقنا السياسية والثقافية دراسة تفكيكية نقدية. دراسة تحكمها روح التسامح بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، وفي هذا المعنى يمكن أن ينشأ الخطاب الذي طالما فقدناه. ذلك القائم على ديمقراطية العلاقة بين قوى المجتمع ومؤسساته واختلافاته وتنوعاته الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية. 
إن الخداع الإعلامي هو أخطر أنواع الخداع لأنه يقلب الحقائق رأساً على عقب ثم يعود ليبثها من جديد كحقائق لا تقبل الشك والمراجعة. ومن هنا تكتسب وسائط الاعلام اهميتها في اطار عملية التغيير هذه .. ومساهمة وسائط الاعلام في نشر ثقافة التسامح والإيمان بقيمها وتبنيها كسلوك يومي هدف كبير يتداخل فيه الاجتماعي والثقافي مع السياسي والاقتصادي . فالأمر يتعلق بضرورة إحداث تغييرات عميقة في مؤسسات العمل الإعلامي ووسائل التواصل والوسائط المعرفية المختلفة..
وفي هذا الإطار يشكل الإنسان/القائم بالاتصال حجر الزاوية في إحداث أي تغيير ملموس، الأمر الذي يتطلب اعادة النظر في مفاهيم التكوين المهني الإعلامي السائدة اليوم في منطقتنا العربية... فإذا كانت وسائط الإذاعة والتلفزيون بوجه خاص قد امتلكت تلك القوة في التأثير والتغيير في أنظمة القيم السائدة في المجتمعات وفي وعي الأفراد والجماعات وتصوراتهم وسلوكهم، فإن التكوين المهني للقائمين بالاتصال في هذه الوسائط ينبغي أن يتطور بما يستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة ويستفيد من المتغيرات الجديدة في جميع المجالات، التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها...
         
خلاصة، أي محاولة للتغيير والتطوير في هذا المجال، سواء على المستوى القومي العربي او القطري، يجب ان تنطلق من رؤية استراتيجية واضحة المعالم والأهداف وآليات التنفيذ تأخذ بعين الاعتبار مايلي: 
·   بناء نموذج تواصلي يقوم على المشاركة لا على فرض الاعتقادات: بحيث يتجنب الاعتماد على النموذج الرأس ي التواصل، وتوفير الفرص للمشاركة الشعبية في التواصل وتحقيق ديمقراطيته، وهكذا يتخلص نظام التواصل من سمة الاتجاه الواحد ويحقق فكرة حق التواصل كحق أساسي وينظر للجمهور كمشاركين فاعلين لا كمتلقين أو مستهلكين فحسب.
·   استيعاب الفروق الفاصلة بين ثقافة التسامح و ثقافة الاستسلام والاسترضاء: ففي ظل إلغاء الحدود بين الشرق والغرب وسيادة عصر العولمة والتقارب الحضاري والتسارع التكنولوجي الرهيب تظل مساحة الحوار متقاربة إلى حد كبير. لكن البعض ينتابه شعور من الهون حين تطل أفكار التسامح واللاعنف والديمقراطية إذ يعتبرها رؤى مستمدة من نظريات وأيديولوجيات وثقافة الغرب.. وعلى النقيض من ذلك، هناك من الناس من يزعم أن على الإنسان ان يرفع دائماً الراية البيضاء، راية الاستسلام والتراجع والهزيمة، لأن ميزان القوى يرجح كفة الآخر. وكلتا هاتين النظرتين يجانبان الواقع والحقيقة.
·   التركيز على القيم المشتركة التي تلتقي فيها الثقافات المختلفة: فرغم الاختلافات الجوهرية بين الثقافات والأفكار في جميع أنحاء المعمورة إلا أن هناك قيماً مشتركة بين جميع الأطراف تمثل منبع نشأة النوع البشري وأصل الوجود الإنساني التي قامت عليها كافة الحضارات السالفة والمعاصرة. والسبيل إلى ذلك إجراء لقاءات وحوارات متواصلة لتعميق الفهم المشترك وتأصيل التداول المعرفي بدلاً من القطيعة ورفض الآخر.
·   التأصيل التاريخي لقيم التسامح والسلام: حيث إن العودة للجذور التاريخية هام جداً في استيعاب ما يمثله التسامح من أصل عقائدي ومعرفي راسخ. فالسلم هو الأصل، والعنف استثناء خارق للعادة.
·   الالتزام بمفهوم واضح للحرية والتسامح: قبل أن يركز الخطاب الإعلامي على العلاقة مع الآخر الغربي والأجنبي في مواضيع حوار الثقافات والقيم الإنسانية مثل التسامح يجب أن ينطلق من المجتمع المحلي ومن المؤسسات الاجتماعية الأساس مثل الأسرة والعمل على قبول الآخر في مختلف أبعاد جهودنا التنموية.
·   التربية على سائل الإعلام : هو شكل من أشكال التعليم واكتساب المهارات يتسم بمزيد من الانفتاح على الآخر وبالمزيد من القراءات والتحليلات النقدية الموضوعية ويهدف الى إكساب التلاميذ والطلاب حساً نقديا بشأن كل إنتاج إعلامي قد يعترضهم، وكيفية التعامل مع هذه التدفق الهائل من الرسائل الإعلامية يوميا  وتمكينهم من الاختيار المتميز والملائم...



      الهوا


[i]  سورة النحل: الآية 125
[ii] سلام، محمد شكري، "ثورة الاتصال والاعلام: من الأيديولوجيا إلى الميديولوجيا"، مجلة عالم الفكر، عدد1، مجلد 23، يوليو – سبتمبر 2003م، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، ص118.
[iii]  إعلان مبادئ بشأن التسامح، المؤتمر العام لليونسكو، الدورة الثامنة والعشرين، باريس، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995،وثائق اليونسكو، منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم.
[iv]  مايور، فيدركو مدير عام اليونسكو، صحيفة الاتحاد الإماراتية، 4/11/ 1997
[v]  إعلان المبادئ بشأن التسامح، اليونسكو المصدر السابق.
[vi]  انظر المادة الخامسة من الإعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري الذي اعتمده وأصدره المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في دورته العشرين بتاريخ 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978 المنعقد في باريس  
[vii] إعلان المبادئ بشأن التسامح، اليونسكو، مصدر السابق ذكره.
[viii]  اكرم حجازي، بحثاً عن الفاعل في هجمات 11 سبتمر، 20 سبتمبر 2001م، مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر، تعز- اليمن
[ix]  بيير بورديو، من مداخلة أمام المجلس العالمي لمتحف التلفزيون نشرتها صحيفة اللوموند الفرنسية Le Monde, 14 October 1999
[x]  ريجيس دوبرية، الميديولوجيا الوسائطية وحقها بالاستقلال، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، العدد 90-91