الثلاثاء، 3 مايو 2011

القات في اليمن: تخزين الثقافة المحلية


 القات في اليمن: تخزين الثقافة المحلية

في الوقت الذي نجد فيه العالم يتجه نحو حضارة «ذات بعد واحد»، بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين (Alain Touraine)، حضارة تجعل من المجتمعات أكثر تشابهاً في الكثير من السمات الثقافية والنظم السياسية والاقتصادية، نجد أن اليمن المعاصر يتجه أكثر فأكثر إلى التفرد في نظامه الاجتماعي وسماته الثقافية، من وجهة نظر سوسيو ـ ثقافية. فإذا أخذنا، على سبيل المثال، إحدى أهم الظواهر المؤثرة في حياة اليمنيين اليومية وهي ظاهرة استهلاك القات نجد أن هذه الظاهرة شهدت في العقود الثلاثة الماضية انتشاراً كبيراً لم تشهده في أي وقت مضى، خلافاً لما كان توقعه بعض الباحثين من أن انفتاح اليمن على العالم والثقافات الأخرى وإحداث تنمية شاملة كفيل بالحد من هذه الظاهرة وربما القضاء عليها! فلماذا حدث ذلك؟ هل يمكن تفسير ذلك بمسألة تأكيد الهوية وسط التحديات الثقافية المتنامية وفي إطار ما يوصف بـ«عولمة الثقافة» وهيمنة ثقافة الآخر «الغربي»؟

بالنظر إلى الحياة الاجتماعية في اليمن يبدو أن هناك تفسيرات عديدة للإقبال على القات، فقد يبرر تخزين القات بالمحاكاة والتقليد وتضمنه معاني الرجولة، وقد يرجع إلى الوظائف المختلفة التي يقوم بها مجلس القات كفضاء اجتماعي، كما قد يرجع ذلك إلى التوظيف السياسي لهذه الظاهرة من قبل المؤسسات السياسية في الحكم والمعارضة، على حد سواء، وقد يكون للعامل الاقتصادي دور مهم، لكن المعاني الجديدة التي تضمنها تخزين القات هي أنه يأتي كرد فعل ثقافي تجاه تسارع التغيرات الاجتماعية والثقافية والهروب من مواجهتها، أو كمؤشر للهوية، كما ذهب إلى ذلك فاريسكو (Varisco)(1) في ضوء المتغيرات الجديدة في المجتمع، هي الأكثر أهمية والأكثر إقناعاً في الوقت الحاضر.وعليه فإننا سننطلق في تحليلنا لتفسير إقبال اليمنيين على القات من فرضية مركزية تعتبر فعل «تخزين القات» ممارسة ثقافية (قيم، علاقات، معايير، سلوك..)، وليس مجرد استهلاك لنبات منشط. فاستهلاك القات في اليمن، لا يمكن أن يفهم في إطاره المادي فحسب، بل يتطلب الإحاطة بجوانب الظاهرة الاجتماعية والثقافية. حيث نجد أن فعل «تخزين القات» منظم بعادات المجتمع وله دلالات ومعان ذات أثر بالغ في الثقافة اليمنية، وأن الإقبال الكبير على استهلاك القات في اليمن يعود إلى أهميته الاجتماعية في الحياة اليمنية، حيث خلفت التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها اليمن منذ ثلاثة عقود تقريباً شكوكاً وغموضاً حول الوضعية الاجتماعية، وعززت الرغبة والضرورة في تحديد الهوية الشخصية وتأكيد الانتساب العائلي، وتقوية العلاقات والحصول على امتيازات.وقبل أن ندخل في تفصيل ما سبق تقديمه يتوجب أولاً الإجابة عن بعض التساؤلات الأساسية مثل: ما هو القات؟ وما هي خصائصه؟ وكيف ظهر في اليمن؟ ولماذا اشتهر استعماله وانتشر في اليمن وبعض دول القرن الإفريقي دون غيرها؟ما هو القات؟القات اسم لنبات أوراقه دائمة الخضرة، ويأخذ أشكالاً عديدة من الأشجار الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ولها جذوع رفيعة ومستقيمة ذات أوراق كثيفة متقابلة، شكلها بيضاوي ومدببة الرأس، لونها أخضر فاتح لامع، وتميل أوراق بعض أنواع القات إلى الاحمرار (القات المحمر) أو إلى اللون الأبيض (البياض).وفي الاصطلاح النباتي يصنف القات على أنه نبات ذو فلقتين وينتمي إلى العائلة السلاسترسية celastracea والتي تحتوي على نحو أربعين جنساً. والجنس الذي ينتمي إليه القات يحتوي على 75 نوعاً، من بينها نباتات طبية وأشهرها القات(2). ويطلق على القات في علم النبات اسم (كاثا أدوليس فورسكال) Catha Edulis Forskal(3) نسبة إلى عالم النبات السويدي (بيتر فورسكال) Forskal(4)، أول من عرف القات نباتياً، وقد أعطى اسماً لاتينياً للمصطلح العربي وسماه Catha وأضاف مصطلح Edulis لأنه يؤكل أو يمضغ. وعندما توفي فورسكال قام كارستن نيبور Niebuher بنشر دراساته حول النباتات في اليمن وبعض البلدان العربية وأضاف اسم فورسكال Forskal للاسم العلمي للقات تكريماً له(5). ويوجد القات بصفة طبيعية في أمكنة عديدة من العالم وقد يكون مجهولاً فيها. كما يعرف في بعض البلدان كنبات طبي مثل أوغنذا ورواندا وبورندي وزامبيا وزيمبابوي والموزمبيق وتركستان وأفغانستان(6)، ولكنه لا يستهلك كنبات منشط وبصفة كبيرة كما هو الحال في اليمن وبعض دول القرن الإفريقي. وتتركز زراعة القات بكميات تجارية كبيرة في كل من إثيوبيا والصومال. كما يزرع بكميات ضئيلة ومتفاوتة في بلدان مثل مدغشقر وبعض المناطق المحتلة في فلسطين، وجزر القمر وكينيا وتنزانيا وفي بعض المناطق السعودية المتاخمة للحدود مع اليمن والمتداخلة معها(7).أما في اليمن فتنتشر زراعته في معظم المناطق تقريباً باستثناء جزء من السهل التهامي في الغرب والمناطق الساحلية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، والجزر اليمنية المنتشرة في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وبعض المناطق الصحراوية في مأرب المحاذية لصحراء الربع الخالي، وجميع هذه المناطق لايزرع فيها القات لعدم صلاحية مناخها وتربتها لزراعته. وتعتبر محافظة صنعاء من أهم مناطق زراعته(8).ويشكل القات اليوم أحد أهم المحاصيل الزراعية النقدية في اليمن، ويستهلك إنتاج اليمن من القات محلياً، باستثناء بعض الكميات المحدودة التي يتم تصديرها إلى جيبوتي وبعض البلدان الأخرى. وتقدر الهيئات الرسمية إجمالي المساحات المزروعة بالقات بـ(82459) هكتاراً وعدد الأشجار المزروعة (202.629.600) شجرة(9).وفعل «خَزَّنَ» هو الفعل سائد الاستعمال في اليمن للتعبير عن كيفية استهلاك القات بدقة ووضوح، ويتم ذلك بقطف الأوراق الغضة، الصغيرة عادة، والبراعم الطرية، ثم مسحها باليد ووضعها في أحد جانبي الفم بين الأسنان والوجنة، والاحتفاظ بها ـ مخزونة ـ لمدة تراوح بين ثلاث ساعات وخمس ساعات، حيث يستحلب عصيرها ببطء مع الماء الذي يتم ارتشافه بصورة متواترة دون ابتلاع الأوراق. من هن ا جاءت تسمية فعل استهلاك القات بـ«التخزين» ويطلق على مستهلك القات اسم (المُخَزّن). وفي ذلك الاستعمال تميز عن عمليات استهلاك المواد الغذائية والمكيفة الأخرى مثل فعل يتعاطى أو يتناول أو يمضغ.. إلخ.وبداية من عام 1886م، حاول عدد من الباحثين تحليل نبات القات كيميائياً. وأجريت منذ ذلك التاريخ العديد من التجارب المخبرية لمعرفة العناصر الداخلة في تكوينه وخصائصها(01).وقد أثبتت هذه التجارب احتواء أوراق القات الطازجة على المواد التالية:أ ـ القلويات: وهي مواد فعالة ويعزى لها تأثيرات القات المنشطة، وهناك خلاف حول عددها، إلا أن جميع البحوث تتفق حول وجود مادة (الكاتين) Cathine وهي من أهم المواد بالإضافة إلى الكاتدين Cathidine والكاتنين والكاتينون Cathinon، وقد لاحظ خبراء منظمة الصحة العالمية أن هذه الأخيرة تشبه مادة الأمفتامين، ونسبة هذه القلويات تراوح بين 1% إلى 18%(11).ب ـ الأحماض الأمينية ومادة الكولين.ج ـ التانين Tannin: وهي مادة قابضة تسبب الإمساك وتوجد بنسبة 4.7%(21).د ـ الفيتامينات والمعادن: حيث ثبت وجود فيتامين (C) والكالسيوم والحديد والسكر بنسب ضئيلة(31).الجذور التاريخية لاستعمال القاتإن ظاهرة استعمال القات في اليمن ليست ظاهرة ساكنة، ولكنها متحركة ومتغيرة، فهي لم تكن خلال القرون الماضية في الصورة نفسها التي هي عليها الآن فيما يتعلق بطرائق الاستعمال والانتشار والأهمية الاجتماعية والأدوار المختلفة. ويتسم تاريخ القات ببعض الغموض والتداخل مع الأسطورة، بالإضافة إلى اختلاف الرؤى حول أصله وتاريخ ظهوره وكيفية انتقاله من منطقة إلى أخرى وبالأخص مسألة ظهوره في اليمن.ويتفق أغلب المؤرخين والباحثين في موضوع القات بأن أول ذكر للقات جاء في كتاب الأقرباذين أو العقاقير المركبة، لمؤلفه نجيب الدين السمرقندي، (توفي عام 1222م)، والذي ذكر القات كنبات طبي. ويذكر التيجاني الماحي(41) أن السمرقندي وصف خصائص القات في كتابه قائلاً إنه: «يستعمل لأغراض التنشيط ومفيد في الترويح عن النفس من أعراض الكآبة والانقباض»(51). وهناك من يرى أن القات ظهر قبل عقود كثيرة من الكتابة عنه في أوساط الفئات الاجتماعية الدنيا، ومن ثم انتشر وتأسس كعادة اجتماعية وبدأ الناس تعوده ومنهم النخبة، وعندها بدأت الأخيرة الكتابة عنه ووصفه.ويمكن القول بأن نبات القات قد وجد في مناطق عديدة على وجه الأرض، وأن اكتشاف استعمالاته المختلفة قد حصل في أكثر من مكان في العالم وفي فترات زمنية مختلفة، إلا أنه لم يتم توثيق ذلك في المصادر التاريخية. ونذكر على سبيل المثال اكتشاف اليمنيين اليهود ـ بعد رحيلهم من اليمن في أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم ـ وجود القات في الأراضي الفلسطينية، ولم يكن أحد من السكان الأصليين في فلسطين يعرف عنه شيئاً قبل وصولهم.والملاحظ أنه رغم اتفاق أغلب المؤرخين والدلائل المتوفرة، حتى الآن، حول الأصل الحبشي للقات، إلا أن تاريخ ظهوره في اليمن وبدايات استعماله الجماعي بقي موضوع خلاف يمكن حصره في فرضيتين أساسيتين: الفرضية الأولى، تقول بظهور القات في القرن السادس الميلادي إبان الغزو الحبشي لليمن عام 545م. الفرضية الثانية، تذهب إلى أن ظهور القات في اليمن يعتبر حديثاً (بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر).والأرجح أن استعمال القات، كمادة منشطة و«مكيفة»، كان معروفاً في بداياته لمجموعات معينة ومحدودة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر من التاريخ الميلادي. وعدم ذكر القات في بعض المصادر التاريخية لا يعني، بصفة قطعية، أنه لم يكن معروفاً في تلك الفترة. ولذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار عند دراسة الشواهد الوثائقية حول القات، الافتراض بإمكانية تجاهل أو تهميش بعض الكتاب لذكر القات في المخطوطات القديمة. ومن الثابت أن أول استعمال للقات قد سبق الكتابة عنه في أوساط الشرائح الاجتماعية الدنيا، فالمزارع أكثر التصاقاً بالأرض ومن الطبيعي أن تكون معرفته باستعمالات القات سابقة لأي فرد آخر. وبعد ذلك انتشر القات وتأسس كعادة اجتماعية وبدأ الناس يعتادونه ومنهم النخبة وعندها بدأت الأخيرة الكتابة عنه ووصفه.وترى الباحثة البريطانية شيلا وير weir أن القات لم يرتبط في التاريخ اليمني بالجاه والمكانة «للنخبة المحظوظة»، وهذا الانطباع حصل عن طريق الكتابات والقصائد والأساطير، وأنه لم يكتب عنه إلا بعد تبنيه من قبل الشرائح الاجتماعية التي تحتل المراتب الأولى في نظام التراتب الاجتماعي السائد آنذاك(61).وبينما كان استهلاك القات في اليمن محدوداً في وقت مبكر من القرن الرابع عشر الميلادي، إلا أنه أصبح أكثر انتشاراً خلال القرن الخامس عشر وما بعده وهي الفترة الزمنية التي لفت فيها اهتمام المؤرخين المعاصرين والأدباء الذين كتبوا عنه الكثير من القصائد الشعرية. ومن أمثال ذلك قول عبدالله ابن الإمام شرف الدين في عام (950هـ) في قصيدته المشهورة(71):أدر غصوناً يواقيتاً من القاتزبـــرجديـــات أوراق وريقــاتيجلـو تناولــه قلبـــي ورؤيتـــهطرفي وتحلو به حالي وأوقاتيوتدل هذه النصوص المتأخرة في الزمان، على أنه كان موجوداً قبل تاريخ نظمها بفترة طويلة، وأنه لا يمكن أن يكون حديث الظهور والاستعمال بل كان قد صار عادة معروفة لدى الكثير من السكان وممارسة من قبل مجموعات اجتماعية معينة لقلة غرسه واستهلاكه.وانطلاقاً من القرن 16م يمكن الحديث عن زراعة حقيقية للقات في اليمن حيث شاع استعمال القات كمادة للكيف والترفيه جماعياً في مجالس خاصة بذلك في جهات كثيرة من البلاد. ومن دلائل ذلك الانتشار ما أثير من جدل فقهي حول مسألة تحليله أو تحريمه في الشريعة الإسلامية بين فقهاء من اليمن ومن خارجها(81). ومع ذلك فقد كان انتشار استهلاك القات بطيئاً في الفترة التي بين القرنين السادس عشر والعشرين من التاريخ الميلادي، واقتصر على فئات تنتمي إلى المراتب العليا في سلم التراتب الاجتماعي في اليمن آنذاك كالسادة والقضاة والفقهاء وبعض الميسورين من التجار ورجال الدولة، ولم يكن القات معروفاً لعامة الناس. ويبدو أن العامل الأساسي لبطء انتشار القات واقتصار استهلاكه على فئات معينة خلال هذه الفترة الطويلة يرجع إلى ارتفاع سعره وقلة زرعه. ومع بداية القرن التاسع عشر الميلادي، كان «تخزين» القات قد تأسس في الحياة الاجتماعية اليمنية كعادة منتظمة شاعت في كثير من المناطق اليمنية وفي مدنها على وجه الخصوص. وإذا كانت هناك بعض الشكوك حول شيوع عادة تخزين القات في أوساط مختلف فئات المجتمع اليمني وشرائحه في وقت مبكر من القرن (19م)، إلا أن المتفق عليه من قبل جميع الباحثين في موضوع القات أنه مع مطلع القرن العشرين، وبالتحديد مع رحيل الأتراك، كان تخزين القات قد أصبح عادة اجتماعية منتظمة منتشرة في أغلب المناطق اليمنية(91).القات والمصلحةاختلف الكتاب والباحثون حول الآثار الاقتصادية للقات سلباً وإيجاباً، ففي الوقت الذي تؤكد فيه الباحثة الفرنسية بلاندين ديسترمو DESTREMEAU، أن القات أدى دوراً مهماً في التنظيم الديمغرافي والاقتصادي في الريف اليمني وإحداث استقرار اجتماعي واقتصادي في البلاد بشكل عام(02) يذهب البعض الآخر من المعارضين لاستعماله إلى أنه سبب رئيس لتعثر الكثير من مشروعات التنمية، وأنه يعمل على «إعادة إنتاج التخلف»(12). وبغض النظر عن تباين الآراء والأطروحات في هذا الشأن فإن مما لا شك فيه أن عامل المصلحة، سواء كانت فردية أو جماعية، أدى دوراً مؤثراً في انتشار استعمال القات في اليمن. فالقات يعتبر، في جميع الأحوال، أفضل محصول نقدي بالنسبة إلى عدد كبير من الأسر الزراعية في الريف اليمني، نظراً إلى مردوديته الكبيرة. ويكاد يكون المحصول النقدي الوحيد لبعض هؤلاء المزارعين. واستناداً إلى دراسة كيندي(22)، فإن زراعة القات وحدها كانت تساهم بنسبة 50% من الإنتاج الزراعي بكامله و30% من إجمالي الإنتاج المحلي عامي 73 ـ 1974م. ومن المؤكد أن هذه النسبة قد ارتفعت خلال السنوات الأخيرة بسبب زيادة المساحات المزروعة بالقات.ونظراً إلى عدم توفر إحصاءات دقيقة حول القات فسنحاول هنا توخي الحذر والدقة في تقدير مساهمة القات في الدخل الزراعي بالاستفادة من الملحوظات الميدانية المباشرة والدراسات السابقة في هذا المجال، بالإضافة إلى ما توفر من تقديرات إحصائية حول المساحة ومتوسطات الإنتاج والإنفاق. وباعتبار أن الهكتار المزروع بأشجار القات يحتوي في المتوسط على نحو 2322 شجرة وأن متوسط إنتاج الشجرة ربطة واحدة في السنة، وأن متوسط قيمة الربطة الواحدة نحو 200 ريال عام 1995 م(23)، ومن هنا فإن إجمالي متوسط الإيراد السنوي من القات للهكتار الواحد يبلغ 360299 ريالاً بسعر المنتج. ومن ذلك نجد أن إجمالي متوسط إنتاج القات بسعر المنتج يصل إلى 33386 مليون ريال عام 1995(42). وباستبعاد مستلزمات الإنتاج نحصل على الدخل المحلي الإجمالي من القات الذي يبلغ 21701 مليون ريال. وبإضافة ذلك الناتج إلى الناتج المحلي للقطاع الزراعي فيصبح 65039 مليون ريال للسنة نفسها، وهذا يعني أن القات قد شكل نحو 33.4% من الناتج الزراعي.ولا يقتصر أثر ذلك على القطاع الزراعي، بل يمتد إلى القطاعات الأخرى كالنقل والمواصلات والتجارة والتوزيع، فإذا تم حساب الآثار الأخرى في باقي القطاعات وإضافة جميع الآثار الناجمة عن إضافة ناتج القات نجد أن محصول القات يمثل 9.3% من إجمالي الناتج المحلي لعام 1995م بالأسعار الجارية، الأمر الذي يدل على أهمية القات في رفع مستوى الدخل المحلي.ويلاحظ أن الإنفاق على استهلاك القات شهد تطوراً كبيراً خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث بلغ عام 1990م (14581) مليون ريال، وارتفع إلى (41202) مليون ريال عام 1995(52). والرسم البياني أدناه يوضح مدى الفارق الكبير في استهلاك القات وتطوره خلال السنوات الخمس بين عامي 1990م ـ5991م.وتطرح العلاقة بين استهلاك القات وميزانية الأسرة العديد من الأسئلة، منها: لماذا يتحمل ذوو الدخل المحدود تكاليف الإنفاق الباهظة على القات والذي يتجاوز أحياناً الدخل الشهري المصرح به لبعضهم، بالإضافة إلى مواجهة متطلبات الاستهلاك الأسرى الضرورية؟ وهل أن سوء التغذية الذي يصيب الكثير من أفراد الأسر اليمنية يرجع إلى تبديد المخزنين من أفرادها نسبة كبيرة من دخلهم كما يذهب إلى ذلك الباحث الاقتصادي محمد العطار؟(62) وما هي المكانة التي يحتلها القات كمادة استهلاكية في سلم أولويات المواد الاستهلاكية للأسرة اليمنية؟والإجابة عن الأسئلة السابقة تتطلب توفر بعض الإحصاءات والمعلومات حول أسعار القات ومتوسط دخل الأسرة في اليمن وإجمالي الإنفاق الشهري. ولن يكون للإحصاءات والأرقام أي معنى دون دراسة العلاقة بين كل من الأسعار والدخل والإنفاق والعوامل التي تتدخل في توجيهها وتحديدها.الأسعار والدخل والإنفاقهناك تفاوت كبير في أسعار القات باختلاف أنواعه وأحجامه، وتراوح أسعار القات بين 200 ريال إلى 4000 ريال تقريباً وفقاً لأسعار عام 5991م. ويمكن حساب متوسط الأسعار للأنواع المتوسطة والرخيصة من القات بـ200 ريال والأنواع المرتفعة الثمن بـ500 ريال. ويبين الجدول أدناه مدى تطور أسعار القات خلال العشرين سنة الماضية.كما تتنوع أسعار القات باختلاف المناسبات الاجتماعية والأعياد، وأحياناً الأيام، وأهم من ذلك اختلاف أنواعه ومناطق زراعته. وأصبح من المعتاد والمتعارف عليه في أوساط مستهلكي القات ـ وبشكل خاص في المناطق الشمالية ذات الطبيعة الجبلية ـ ارتفاع أسعار القات في فصل الشتاء وانخفاضها في الصيف بسبب تأثيرات الطقس السلبية على النبات والمتميز بالبرودة والجفاف، والتي تعمل على تأخير نموه وقد تقضي عليه في بعض الأحيان، فيقل الإنتاج، ومن هنا يكون العرض مقابل الطلب. وتدفع الأعياد والمناسبات الاجتماعية كالزفاف الكثير من غير المخزنين في سائر الأيام إلى تخزين القات، الأمر الذي يرفع من الطلب عليه فترتفع أسعاره.فالقات كمنتوج زراعي لا يخضع تحديد أسعاره إلى العوامل الاقتصادية فقط في مثل تكاليف الإنتاج ومواصفات الجودة كغيره من المنتجات الزراعية والصناعية الأخرى، الأمر الذي يصعب معه الحديث عن أسعار ثابتة وموحدة للقات. ونضرب لذلك مثالاً، بمقارنة القات من النوع الضلاعي والقات من النوع السوطي، حيث نجد أسعار النوع الأول مرتفعة جداً ويصل سعر الربطة منه إلى أربعة آلاف ريال(82) رغم أن مزارعه لا تبعد عن الأسواق سوى بضعة كيلومترات. كما أن تكاليف إنتاجه لا تختلف كثيراً عن «السوطي» الذي يأتي إلى أسواق صنعاء من مناطق تبعد أكثر من 200 كم، ومع ذلك فأسعاره زهيدة ولا يتجاوز ثمن الربطة منه مئة ريال فقط. فالذي يحدد السعر هنا هو المستهلك نفسه واختياره لنوع معين وتفضيله على الأنواع الأخرى بالإضافة إلى قدرته الشرائية ومكانته الاجتماعية.وترتكز اختيارات المستهلك لأنواع القات على مرجعية ثقافية تتصل بأنظمة القيم والمواقف والتصورات السائدة في المجتمع اليمني. فالشائع في أوساط المخزنين أن الأنواع رخيصة الثمن لها تأثيرات سلبية على المخزن، كالأرق والضعف الجنسي والسيلان المنوي وفقدان الشهية... بينما يسود الاعتقاد بأن الأنواع مرتفعة الثمن أكثر جودة لتأثيراتها الإيجابية على جسم المخزن وذهنه. فـ«الفيتيشية» وأنظمة القيم والمواقف السائدة هي المحدد الرئيس لأسعار القات وليس المنطق الاقتصادي المتمثل في آلية العرض والطلب أو الجهات المختصة بتحديد الأسعار في الدولة.وقد لاحظت واير Weir أن المسألة الحاسمة في تحديد سعر القات، هي أن الناس لا يدفعون في شراء القات أقل ما يستطيعون دفعه بل أكثر ما يمكنهم تحمله، فالقدرة هنا مرتبطة بالدخل وتقول: «إن القوى المتأصلة في مضامين استهلاك القات ومعانيه تدفع نفقات كل مستهلك إلى أعلى مستوى بالنسبة إلى عائداته، وهذه الآلية هي التي تجعل من القات سلعة باهظة الثمن»(92). وتعزز الباحثة الفرنسية ديسترمو Destremeau هذا الطرح بقولها: «رغم أن حركة الأسعار تخضع لميكانيزمات السوق لكنها في آخر المطاف تخضع لعوامل خارجية تماماً مستقلة عن القيمة الحقيقية للمنتوج وتكلفة الإنتاج»(03).وباستعارة تحليل بورديو Bourdieu للظاهرة الاجتماعية(13)، يمكن القول أن للقات، كمنتوج، قيمتين، الأولى مادية ـ سلعية ـ والثانية دلالية لها أبعاد ثقافية واجتماعية، تتدخل في آلية تحديد أسعار القات وفي اختيارات المخزنين للأنواع المختلفة وحجم الإنفاق. فنجد على سبيل المثال أن القات «الشامي» أو البلدي من أغلى الأنواع وذلك بسبب قيمته الرمزية بغض النظر عن خصائصه المادية وتكاليف إنتاجه. وقد اكتسب هذه القيمة من دلالات استهلاكه السائدة في ثقافة القات، فهذه الأنواع لا يستهلكها عادة إلا ذوو الدخل المرتفع من شيوخ القبائل ورجال الأعمال ومسؤولي الدولة الكبار. كما ارتبط استهلاك القات من نوع «السوطي» و«القطل»، والذي لا يختلف كثيراً في تكاليف إنتاجه أو خصائصه النباتية المنبهة، بذوي الدخل المحدود من الأفراد المنتمين إلى الشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا في نظام التراتب الاجتماعي.ولم تكن ثقافة القات تتضمن مثل هذه المظاهر قبل الستينيات حينما كانت ممارسة تخزين القات حكراً على فئات وشرائح اجتماعية معينة، مقتصرة على فئة الرجال والمتصوفين وأولئك المنتمين لشريحة السادة والقضاة، فكان استهلاك القات في حد ذاته يحمل دلالات الانتماء الاجتماعي الطبقي، ويشكل مظهراً سلوكياً من مظاهر معايير التمايز الرمزية بين مختلف الشرائح والجماعات الاجتماعية. وقد ساد في ذلك بعض التصورات في إطار ثقافة القات عملت على تكريس التمايز، فكان من «العيب» والمخل بمكانة المزارع «القبيلي» أن يخزن القات في مجلس جماعي «محاكاة» لسكان المدن ـ الذين لا ينتمون بطبيعة الحال إلى المجتمع القبلي ـ وكذلك الشأن بالنسبة إلى المرأة التي تحتل مكانة أدنى من الرجل في الثقافة السائدة آنذاك.ونتيجة التحولات الاجتماعية والاقتصادية الأخيرة، بدأ فعل استهلاك القات يظهر في شكله الخارجي، كمنتوج استهلاكي «ديمقراطي»، على حد تعبير جيرهولم Gerholm، في متناول الجميع ومن حق الجميع. لكن ثقافة القات عملت على إبراز عناصر جديدة ودلالات استهلاكية أخرى بديلة تتماشى مع التحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى لتكريس التمايز بين شرائح المجتمع في ظل التغيرات التي يشهدها نظام التراتب الاجتماعي. ومن أبرز الدلالات الجديدة، تلك المرتبطة بنوع القات، ومستوى الإنفاق، وأشكال الاستهلاك وتمظهراته المختلفة في المجالس القاتية. ويذكر البردوني أن نوع القات وكميته أصبحا مؤشراً لمستوى دخل الفرد ولتقويم سلوكه الاجتماعي ويقول البردوني: «كان الناس يلاحظون شراة القات فيعرفون دخل كل مشتر لأن الأثمان تدل على المباع، فكانوا يسمون القات الجيد بقات الظلمة أو الورثة ويسمون القات متوسط الجودة قات الموظفين»(23).فيتداخل هنا الاقتصادي مع الثقافي والاجتماعي في تفسير السلوك القاتي للفرد.يعتمد الإنفاق الفردي والأسري على القات على عدد من العوامل منها، سعر الربطة، وعدد الربط المستهلكة كل مرة، وعدد مرات الاستهلاك في الشهر، بالإضافة إلى عدد الأفراد المخزنين في الأسرة الواحدة. ويعتبر مستوى الدخل الأسري العامل الحاسم في حجم الإنفاق الأسري على القات.وفي مسح ميزانية الأسرة اليمنية لعام 1992م، وجد أن نسبة إنفاق الأسرة على القات بلغت 1090 ريالاً شهرياً للأسرة الواحدة كمتوسط مرجح على مستوى الجمهورية(33)، وبذلك يحتل القات نسبة 13.1% من إجمالي متوسط الإنفاق على السلع الغذائية البالغ 8612 ريالاً(43). وإذا احتسبنا ما يحتله الإنفاق على القات من متوسط دخل الأسرة اليمنية فإننا نجده يصل إلى 15.8% على مستوى الجمهورية، ويأتي الإنفاق عليه في المرتبة الثالثة بعد الحبوب (23.3%) واللحوم (18.7%) في قائمة الإنفاق على السلع الغذائية(53). وقد ارتفع الإنفاق على القات لدى الأسرة اليمنية خلال السنوات الخمس التالية ليصل إلى المرتبة الثانية بعد الحبوب في قائمة السلع الغذائية بنسبة 7.6%(63).وإذا كان للقات أثره على نفقة المعيشة للأسرة والفرد من خلال مشاركته في زيادة الإنفاق الاستهلاكي، فإن له أثره كذلك على عملية الادخار الناجمة عن الآثار التوزيعية التي يتركها على الدخل في المجتمع. وإذا ما سلمنا بأن القات منتوج مستهلك داخلياً وأن دورة النقود تتم في الداخل فإن حجماً كبيراً منها يتراكم لدى منتجي القات وعددهم محدود.كما يذهب بعض الباحثين إلى أن الأوقات التي يمضيها المستهلكون في مجالس القات تعد ساعات ضائعة تشكل فقداً اقتصادياً وتقدر بحوالي 14.622.000 ساعة عمل يومياً. بالإضافة إلى أن التوسع في المساحات المزروعة بالقات يتم على حساب محاصيل نقدية تصديرية مثل البن والفواكه.أما أخطر الآثار الاقتصادية الناتجة عن التوسع في زراعة القات فتتمثل في الاستنزاف الكبير للمياه الجوفية، حيث يبلغ حجم المياه التي تستهلكها مزارع القات نسبة 55% من إجمالي الاستهلاك(73)، وهي نسبة مثيرة للقلق وتهدد مستقبل احتياطي المياه الجوفية في مناطق المرتفعات المتوسطة والشمالية. كما تنعكس الآثار الصحية السلبية للقات بشكل مباشر على الاقتصاد اليمني بسبب انتشار الأمراض الناتجة عن الإفراط في استهلاك القات ومعالجته بمبيدات ضارة على صحة الإنسان وصلاحية التربة. ويذكر الباحث عبدالرحمن ثابت أن القات يعامل بالعديد من المبيدات المحرمة دولياً حسب توصيات منظمة الصحة العالمية، حيث وجد من خلال الأبحاث أن 90% من المبيدات الفطرية و50% من مبيدات الحشائش و30% من مبيدات الحشرات تسبب السرطان(83).الفاعلية الاجتماعية للقاتيذكر الباحث اليمني د. عبدالملك المقرمي أن القات يستمد مشروعية وجوده وشيوع استعماله من «مرجعية تاريخية، دينية ـ اجتماعية، تعزله عزلاً تاماً عن المخدرات وبقية المغيّرات، فكان لارتباط استهلاكه في بداية ظهوره من قبل النخب الدينية معان أضفت عليه مشروعية دينية غير قابلة للتشكيك»(93)، حيث يتفق فقهاء المذهبين السائدين في اليمن، الزيدي والشافعي، على إباحة استهلاكه.ولذلك يجب البحث هنا، بغض النظر عن تأثيرات القات الفسيولوجية الواضحة، عن الدوافع الحقيقية لاستهلاك القات فيما يمكن تسميته «بالفاعلية الاجتماعية» التي ينتجها، فاستهلاكه أحد أهم شروط الدخول إلى مؤسسة مجلس القات. وفي مجتمع تقليدي في أوج تحوله يشكل استهلاك القات رهاناً اقتصادياً واجتماعياً من الطراز الأول. فهو يتيح للفرد تحقيق بعض الطموحات الاجتماعية وبناء شبكة من العلاقات، كما يتيح المجال لتلقي بعض المعارف المفيدة في بعض الاستراتيجيات الاجتماعية.إن التحولات الدراماتيكية التي يخضع لها المجتمع اليمني منذ نهاية الستينيات على جميع المستويات، وما ترتب على ذلك من انتشار الأيديولوجيات الجديدة ودخول التكنولوجيا الحديثة وما تحمله من أنماط حياتية جديدة على المجتمع، قد دفعت بالبعض إلى الاعتقاد بأن ذلك من شأنه أن يهدد الثقافة اليمنية التقليدية وتماسك المجتمع كما حدث في بعض المجتمعات العربية.وفي ضوء تلك المتغيرات، التي تزامنت مع ارتفاع كبير في دخل الفرد، طرح تساؤل ملح حول الهوية وهي مسألة جوهرية في السياق اليمني. فلم يعد الانتماء إلى قبيلة أو عائلة أو منطقة كافياً وأصبحت الحاجة ملحة في الوقت الراهن إلى تحديد هوية الإنسان اليمني المعاصر مقابل الثقافات العربية والجنسيات الأخرى وفي اتجاه إيجابي. وأصبح اليمنيون مطالبين أكثر من أي وقت مضي بالتوفيق بين القديم والجديد، ومواجهة تحديات التغيير؛ لأن رفض الجديد والبقاء في العزلة السابقة لم يكن بيدهم، فالعالم من حولهم يتدخل في اختيارات الإنسان اليمني عندما يتمشى في أرصفة شوارع المدن الكبرى، وعندما يختار نوعية القمح الذي سيصنع منه خبزه، وعندما يدير مفتاح جهاز التلفزة لأول مرة. وكانت مسألة تحديد تصورهم لثقافتهم التقليدية وتضمينها معاني جديدة إحدى الطرائق المتاحة لمواجهة تحديات التغيير.ولما كان تخزين القات فعلاً متأصلاً في ثقافة المجتمع اليمني التقليدية ولا يشترك فيه مع ثقافات عربية أخرى، فإنه انتشر بعد ذلك بمعان جديدة لمواجهة تحديدات التغيير. فلم يعد تخزين القات مظهراً سلوكياً مميزاً للنخبة من الصوفيين أو شريحة من الأثرياء العاطلين لمجرد التسلية وتمضية أوقات الفراغ، بل أصبح ينظر إلى التخزين اليوم باعتباره فعلاً مميزاً لكل اليمنيين ونشاطاً إيجابياً اكتسب مشروعية دينية وسياسية واجتماعية. وهكذا بدأ تخزين القات يحمل مضامين جديدة في الثقافة اليمنية المعاصرة. فتخزين القات فعل له مرجعيته الرمزية التي يمكن أن يستند إليها أي يمني من أية فئة أو شريحة اجتماعية لتعزيز هويته الثقافية. ويفيد القات كرمز في الحياة الاجتماعية في أنه يجسد إحدى الحقائق المجردة العقلية في المجتمع ويجعلها ملموسة ومرئية. وبذلك فإنه يسهم في استدعاء شعور الانتماء إلى المجموعة الوطنية والمحافظة عليها. فالانتماء لقيم معينة يرمز في حد ذاته ـ بنظر الفرد وبنظر العناصر الفاعلة الأخرى ـ إلى مشاركته في هذه الجماعة أو تلك وفي هذا المجتمع أو ذاك(04).وفي تقسيم الثقافة اليمنية للزمن تعتبر ساعات بعد الظهر «زمن اجتماعي» ولذلك فإن تخزين القات في هذه الفترة بالتحديد يعني المشاركة واجتماعية الفرد في إطار جماعة الأصدقاء، كما هو الحال بالنسبة إلى الصباح المخصص للعمل، وقضاء هذه الفترة على انفراد يحدث خللاً في علاقات الفرد بالجماعة والمجتمع. وخرق رمزية الزمن هذه خروج على معايير وقيم المجتمع.وهذه المعاني الجديدة التي يتضمنها فعل تخزين القات لم تكن وليدة محدثات راهنة ومؤقتة، بل كانت نتيجة صيرورة تاريخية وتدخل عوامل عديدة، خارجية وداخلية، سياسية واقتصادية وتاريخية تضافرت جميعها لتجعل من الظاهرة القاتية موضوعاً يحتل أحد مراكز اهتمام اليمن المعاصر كلما تعلق الأمر بالبحث في تحديد هويته وخصوصيته في إطار حضارة عالمية «ذات بعد واحد» تهيمن فيها ثقافة الأقوى وتتجه نحو التشابه أكثر من الاختلاف.إذاً فالانتشار المعاصر لاستهلاك القات لم يكن نتيجة تلقائية للتحولات الاجتماعية الراهنة ولكنه جزء مكمل لا يتجزأ من هذه التحولات، وسيتزايد أكثر فأكثر مع ارتفاع الطلب الاجتماعي للمعنى والبحث عن «هوية» تتوفر في إحياء وتجديد التقاليد والطقوس، وبخاصة عبر «التبني» الجماعي للحنين/ الهروب إلى الماضي. ففي ظل التحولات التي عملت على زعزعة العلاقات الاجتماعية التقليدية المنظمة لحياة الجماعة، باتت جلسات القات وسيطاً ملائماً لاستحضار الماضي والتمسك به والشعور بأن كل شيء لايزال على حاله، الأمر الذي دفع بالباحث المقرمي إلى وصف مجالس القات «بالمنتديات الفكرية والأدبية الرجعية التي تدعو إلى التمسك بالقديم وقيمه ومحاربة الغزو الحضاري الرهيب الذي يتعرض له المجتمع»(14). ولذلك يمكن القول أن ظاهرة تخزين القات تشكل في مجملها «خطاب» يعبر عن رد فعل ثقافي للدفاع، ومواجهة تسارع التاريخ، والهروب من تحديات الحاضر، والعودة إلى «النقاء» والأصول والذات.وعليه نجد أن الظاهرة القاتية ساهمت، بشكل مباشر وغير مباشر، في توجيه عمليات التغيير في المجتمع اليمني. والقات بهذا المعنى لم يعد مجرد ظاهرة قد يختلف عليها البعض أو يتفق، بل أصبح رمزاً للأصالة وللماضي الذي كان أفضل من الحاضر.وهنا تكمن أهمية وخطورة الظاهرة التي نحن بصدد مناقشتها، فالأمر لم يعد يتعلق بمجرد استهلاك مادي لنبات أو عادة اجتماعية مبتذلة ومختلف عليها بين الأطراف الاجتماعية، وإنما بمنظومة من التصورات والمفهومات والقيم السائدة والمصالح والرموز المرتبطة باستهلاك القات. وذلك من شأنه أن يثير العديد من التساؤلات في البدائل والمعالجات الواقعية والتي يجب أن لا تستهين بهذه الأبعاد المهمة وتأخذها بعين الاعتبار، لتضمن نجاحها.القات وإعادة إنتاج الثقافة التقليديةوكما تساهم ثقافة القات في الحد من عمليات التغيير في المجتمع عبر القيم التي تروج لها باعتبار القات رمز الأصالة، فإنها تساهم أيضاً في إعادة إنتاج القيم والعلاقات الاجتماعية التقليدية. وما يحدث داخل جلسات القات من سلوكيات وتفاعلات ما هو إلا تعبيرات اجتماعية للواقع الملموس. فنجد أن الالتزام بنظام محدد للجلوس والدقة التامة التي يتقيد بها الناس في العمل به، يتضمن معاني عميقة في الثقافة اليمنية ويعبر بقوة عن نظام التراتب الاجتماعي السائد في المجتمع اليمني. ويمكن اعتماده كأحد معايير مظاهر التمايز الاجتماعي الرمزية الأكثر بروزاً في مجلس القات. وعلى ذلك تتيح الممارسة البسيطة لإهداء القات وتبادل أغصان القات في بداية الجلسة وإفساح المكان لجلوس شخص تأخر في الوصول إلى المجلس، تتيح الفرصة لتأكيد التمايز بين الجماعات والأفراد. ومن ثم فإن مجلس القات وإن كان يظهر فضاءً للمساواة الاجتماعية والاستهلاك الديمقراطي يمارسه جميع الناس، فإنه يخفي في طيّاته ممارسات تؤكد التمايز الاجتماعي بين الشرائح والفئات المختلفة وتعيد إنتاج النظام الاجتماعي القائم. وهكذا يساهم مجلس القات في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي المهيمن والثقافة المجتمعية السائدة، أو ما يطلق عليه عالم الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو Bourdieu «الثقافة المشروعة»(24)، فهناك الكثير من مظاهر هذه الثقافة لاتزال سائدة في المجتمع اليمني بفضل استمرارية وانتشار ظاهرة مجالس القات.ومن مظاهر إعادة إنتاج الثقافة في بعدها المادي الملموس، نجد أن استهلاك القات ساهم بصورة غير مباشرة في إعادة إنتاج العديد من الأنماط الاستهلاكية التقليدية من طعام وملبس وسكن وغيره. فالكثير من الوجبات الغذائية التقليدية، وخصوصاً وجبة الظهيرة، تستجيب لشروط تخزين القات. وفيما يتعلق بالعمارة التقليدية، يلاحظ أن أغلب مدن اليمن، ومدينة صنعاء بشكل خاص، لاتزال تحافظ على طابعها المعماري المميز سواء في شكله الخارجي أو هندسته الداخلية وأثاثه التي غالباً ما تستجيب لمتطلبات التخزين. ومن النادر أن يخلو منزل يمني من وجود «مفرج» أو ديوان لتخزين القات في أفضل مكان في المنزل. كما نجد أن اليمنيين من السكان القلائل في العصر الحديث الذين لم يتأثروا كثيراً بالزي الحديث المأخوذ من الغرب ـ البنطلون والسترة ـ وحتى إن ارتدى بعضهم هذا النوع من الملابس فإنهم بمجرد العودة من العمل الرسمي أو السفر مثلاً سرعان ما يتخلصون منها. ومن النادر أن يوجد في أي مجلس قات من يخزن بملابس غربية.وهكذا يبقى القات وجلساته من أهم آليات إعادة إنتاج الثقافة التقليدية في بعدها المادي الملموس، والوقوف أو الحد من انتشار أي ثقافة جديدة، في ظل التحولات السريعة في جميع مجالات الحياة اليومية والتشتت بين القديم والحديث.تأثير القات على المشهد الثقافيلقد أصبحت مجالس القات، في شكلها الراهن وفي غياب فضاءات ثقافية وفنية أساسية، بديلاً مفروضاً للمراكز الثقافية والمؤسسات التربوية والفضاءات التنشيطية والترفيهية وهي ـ مجالس القات ـ فضاء تواصل واتصال لا غنى عنه بين الأفراد والجماعات. فنجد أن حفلات الموسيقا لا تتم إلا في إطار مجلس القات. وتتناسب الموسيقا اليمنية، والصنعانية منها على وجه خاص، من حيث عدد العازفين ونمط الغناء وإيقاعاته مع طقوس الجلسة القاتية وتقاليدها وتدرج المراحل الزمنية فيها، فالعود هو الأداة الموسيقية المهيمنة على الموسيقا اليمنية.ومن الواضح أن الانتلجنسيا اليمنية قد وجدت في مجالس القات المكان الملائم لتجمعاتهم بدلاً من الصالونات المعروفة في بعض البلدان العربية والمقاهي التي لا توجد بكثرة في اليمن، وإن وجدت فهي لمجرد الاستهلاك المادي للمشروبات وليس للتجمع والتلاقي. ويقارن الأنثروبولوجي الفرنسي لامبير مجالس القات في صنعاء بصالونات أوروبا في القرن التاسع عشر، فهي تمثل بالنسبة إليه «محاولة مشابهة للتوازن بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فتحدث داخلها ألفة اجتماعية خاصة لكنها منفتحة نسبياً على الخارج والعام»(34). وتستوعب هذه المجالس معظم الأجناس الأدبية من قصة ومقالة وفنون شعرية ومسرحية. وإذا ما طغى النشاط المسرحي أو الشعري على الجلسة فيسمى مقيل القصيدة أو «مقيل المسرح». وفي هذا السياق يذكر عبدالله البردوني أن المجتمع اليمني لم يتمسرح بعد، ولايزال مجتمعاً تسوده كثير من الأشكال الفنية البدائية.وبما أن المجلس القاتي، في حد ذاته، يعد احتفالاً اجتماعياً يثير في الذهن بشكل طبيعي صورة المسرح سواء بسبب موقع «الممثلين» الرئيسين les acteurs، حسب تعبير ماكس فيبر، والجمهور، أو بسبب السيناريو الموضوع مسبقاً والذي يجب على كل ممثل أن يسير على خطاه بحسب الدور المنوط به، وانطلاقاً من مبدأ أن كل مكان يصلح للعرض المسرحي، كان اختيار المخرج المسرحي العراقي كريم جثير أن يذهب بالمسرح إلى مجلس القات واستغلاله كفضاء مسرحي، من خلال تجربة فنية ظهرت في بداية التسعينيات عرفت بـ«مسرح المقيل»، وكانت فريدة من نوعها في العالم العربي. وقد علل المخرج جثير اختياره قائلاً: «إن المقيل يمتلك جواً نفسياً يتصاعد بشكل درامي وينتهي نهاية مسرحية... لذا وجدنا في المقيل منطلقاً لما نراه مسرحاً يحمل خصائص تميزه عن غيره..»(44).وهكذا نجد أن خصائص مجلس القات تساهم إلى حد كبير في اكتساب هذا الفضاء وظائف وأدواراً جديدة، تعكس الأهمية المتزايدة للقات في نسق الحياة اليومية في اليمن، وسيطرة ما يمكن أن نصفه بثقافة المخزنين على المشهد الثقافي في اليمن، الأمر الذي ساهم في تخلف النشاط الثقافي الإبداعي في البلاد بمختلف أشكاله وفنونه، المثقفون هم الفاعلون الحقيقيون فيه.القات والدولةشهد القات، زراعة وتجارة واستهلاكاً، زخماً جديداً بعد إعلان دولة اليمن الموحدة في 22 مايو 1990، حيث ألغيت القوانين الشطرية التي كانت تمنع استهلاك القات وبيعه وشراءه في الجنوب، ودخل القات لأول مرة بعض المدن والقرى الجنوبية التي لم تكن تعرف القات من قبل مثل حضرموت والمهرة.وكان من المفترض أن يفقد مجلس القات بعض مميزاته مع تبني نظام الدولة الموحدة للديموقراطية السياسية والتصريح بالتعددية الحزبية وقيام أحزاب جديدة، والتي ستستأثر بها أنماط أخرى من اللقاءات والتجمعات مثل اجتماعات الخلايا أو الوحدات الحزبية والمؤتمرات العامة. لكنه من الواضح للعيان أن مجلس القات بدأ يتأقلم مع الأوضاع السياسية الجديدة. فكثير من الاجتماعات السياسية المهمة والأكثر أهمية تنعقد في إطار جلسات قاتية يومية. وفي هذه الحالة لا يتم تخزين القات، بالضرورة، داخل فضاءات تقليدية كالمفرج، بل قد يتم التخزين على الكراسي أمام طاولة اجتماعات. وقد بدأت بعض المنظمات والهيئات الدولية والمؤسسات الحكومية في تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية وأعمال إضافية بعد الظهر وتقوم بدفع أجور إضافية مقابل حضور المشاركين بعد الظهر تسمى بدل جلسات، وعادة ما يقصد به ضمناً مقابل شراء القات.وفي إطار الصراع السياسي الذي اشتد خلال السنوات الأولى من التسعينيات بين الحزبين الحاكمين، آنذاك، المؤتمر الشعبي العام من الشمال سابقاً والحزب الاشتراكي الذي كان يحكم الجنوب سابقاً، شهدت مجالس القات حركية كبيرة وانتشاراً لم يشهد له مثيل من قبل. فكان كل طرف سياسي يعمل على توظيف مجالس القات واستغلالها في تحركاته في الأوساط الشعبية والمثقفة على حد سواء، وفي استقطاب مناصرين له والدعاية لسياساته ونشرها.كما أن أغلب التجمعات والاجتماعات السياسية والحزبية كانت تعقد بعد الظهر في مجالس قاتية خاصة للغرض مدفوعة الأجر، حيث يتم صرف مبالغ مالية للمشاركين فيها، مخصصة أساساً لشراء القات، تحت مسمى «بدل جلسات»، لشراء القات. وقد نهجت مؤسسات الدولة وهيئاتها المنهج نفسه، حيث صار من المشروع والطبيعي أن تحال معظم القضايا والمشكلات والموضوعات الشائكة في مرافق الدولة إلى جلسات بعد الظهر القاتية للبت فيهاü.ولذلك ترى الباحثة اليمنية رؤوفة الشرقي أن الدولة تتحمل المسؤولية الرئيسة في انتشار استعمال القات لعدة أسباب، من أهمها:ـ عدم الإعلان الرسمي عن المساحات الزراعية التي تتقلص من الأرض الزراعية، منتجات كفاف أو منتجات نقدية، كالبن أو القطن أو الخضراوات، أمام القات.ـ سقوط المنع الرسمي لاستخدام المنشآت الحكومية وأجهزة الدولة في فترة بعد الظهر لجلسات القات.ـ اتجاه الدولة نحو تشجيع جلسات القات عبر توفير دعم خاص ومالي متمثل في بناء دواوين أو مفارج أو غرف مخصصة للقات وتأثيثها على النحو الذي يخدم هذا الغرض من المشروعات الاستثمارية للدولة.ـ إدخال نفقات المصروفات للقات تحت شعار «بدل جلسات» أو نثريات في الموازنة العامة للدولة.ـ ربط أغلب الاجتماعات الرسمية للأجهزة العليا في الدولة بفترات جلسات القات.ـ تسابق مسؤولي الدولة الكبار في جعل مجالس القات التي تدار في منازلهم أو مواقع عملهم كمراكز استقطاب اجتماعية وسياسية واقتصادية ومحاور للضغط والتأثير على صناعة القرار(54).ونضيف إلى العوامل السابقة، عاملاً آخر له أهمية بالغة في ترويج القات بصورة غير مباشرة، وهو تجاهل وسائل الإعلام الرسمية وتحاشيها الخوض في موضوع القات.خلاصة لما تقدم، نجد أن الدولة اليمنية تتبنى موقفاً سياسياً حذراً ومزدوجاً ذا شقين إزاء القات، الأول علني يعترف بوجود أضرار كبيرة للقات على المستوى الاقتصادي والصحي، ويؤكد، في الوقت نفسه، احترام «موروث ثقافي» وأن استعمال القات من خصوصيات الثقافة اليمنية، ومن التجني على الشعب اليمني وصفه بالشعب المخدَّر.أما الوجه غير المعلن فيتلخص في اعتبار مؤسسة الحكم السياسية القات أحد أهم العناصر التي يمكن توظيفها سياسياً لصالحها. فالقات يشغل معظم وقت مستهلكيه ويستحوذ على جهودهم واهتماماتهم منذ الصباح الباكر حتى آخر ساعات الليل، يبدأ المخزن في التفكير في كيفية توفير المال اللازم لشراء قات يومه، وعند الظهيرة يتسابق الجميع إلى أسواق القات أو مزارعه القريبة من المدينة للبحث عن «ولعة» اليوم من القات. ولا يكاد الفرد ينتهي من تناول غدائه بسرعة يتميز بها المخزنون عادة، حتى يسرع إلى مجلس القات أو تناوله في مقر عمله. وتدوم الجلسة كما ذكرنا سابقاً بين أربع ساعات وست ساعات، وقد تصل إلى ثماني ساعات. وبعد الفراغ من التخزين يسبح المخزن في أفكاره وحيداً وينطوي على ذاته.وهذه الدورة اليومية تشغل اليمني عن أية اهتمامات أو طموحات سياسية قد تثير لمؤسسة الحكم المشكلات. كما أن النقاش الذي يتم في إطار مجالس القات لا يتجاوز، في أغلب الحالات، تلك المجالس إلى مرحلة التنفيذ. بيد أن طرح الأفكار والجدل يساعد المخزنين المشاركين في المجلس على الحديث وبصوت عال والتخفيف عن الضغوطات النفسية والاجتماعية الناتجة عن مشكلاتهم اليومية وهمومهم الحياتية.وفي ظل هذه الظروف ينحسر الدور السياسي للفرد ويتراجع اهتمامه بالكثير من القضايا العامة والمصيرية. وهكذا يتم تكريس اللامبالاة السائدة في المجتمع إزاء التحولات والأحداث الكبرى والمهمة في حياة المجتمع.إلا أن الموقف العلني للدولة تجاه القات لم يبق على حاله حيث حدث تحول دراماتيكي فيه بصورة مفاجئة أواخر عام 9991م. ومن أهم مؤشرات هذا التحول:ـ تصريح رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح، غير المسبوق، بأن القات يشكل عائقاً للتنمية في البلاد، وبأنه شخصياً امتنع عن تخزين القات، ويزاول الرياضة بدلاً من التخزين(64).ـ إصدار قرار بمنع منسوبي القوات المسلحة والأمن من تخزين القات في أمكنة العمل وبالزي الرسمي.ـ تمديد الحكومة لساعات العمل الرسمي حتى الثالثة بعد الظهر بدلاً من الواحدة والنصف، الأمر الذي سيشكل عائقاً أمام الكثير من موظفي الدولة عن الذهاب لشراء القات وتخزينه بعد الظهر كما جرت العادة.ـ إدراج وزارة التخطيط والتنمية محصول القات في تقاريرها وإحصاءاتها الرسمية، بعد تجاهل دام طويلاً. ومن المنتظر أن تنظم الوزارة مؤتمراً وطنياً لتدارس موضوع القات، يعد الأول من نوعه في تاريخ اليمن.ـ دعم بعض الجمعيات الأهلية المهتمة بموضوع القات، وفي مقدمتها الجمعية الوطنية لمواجهة أضرار القات، التي بادرت بالتصدي لتفشي هذه الظاهرة في ظل صمت الأغلبية وتخوفهم من مواجهة المشكلة، حيث قامت بتنظيم حملات توعية عبر وسائل الإعلام الجماهيرية والمدارس الثانوية والجامعات بأضرار القات الصحية والاقتصادية، وحفزت الهيئات الرسمية والشعبية على اتخاذ مواقف جادة تجاه هذه المشكلة التي يعانيها المجتمع اليمني.ـ بث القناة الفضائية للتلفزيون اليمني برنامجاً حول موضوع القات والإشكالات التي يطرحها، الأمر الذي يحدث لأول مرة في وسائل الإعلام الحكومية منذ السبعينيات.خلاصة القول:إن المشكلة والمخاوف المترتبة عليها لا تكمن في القات كنبات وإنما في دوافع استهلاكه والوظائف التي تقوم بها مجالس القات كفضاءات للتواصل الاجتماعي وبناء العلاقات والترفيه والتخفيف من ضغوطات الحياة اليومية. فالأهمية الاجتماعية والثقافية للقات بالنسبة إلى المستهلك اليمني أكبر وفوق كل خطر صحي أو ضرر اقتصادي. ولذلك فإن مسألة حدوث أي تغيير في الظاهرة القاتية والحد من أضرارها مرهون بالفاعلين الاجتماعيين، أفراداً ومؤسسات، وبوجود إرادة حقيقية للتغيير. فلا يمكن أن يقتصر أي تدخل للحد من أضرار القات على الجهات المعنية في الحكومة وحدها، أو الجمعيات الأهلية بمفردها، وإنما يتطلب الأمر تنسيقاً وتعاوناً من جميع الأطراف في المجتمع والحكومة ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة. فالأضرار الناتجة عن انتشار القات، زراعة واستهلاكاً، تمس مصالح جميع من يعيش على الأرض اليمنية دون استثناء.لكن التغيير يتطلب وضع استراتيجية وطنية، متوسطة وبعيدة المدى، تعكس مفهوماتها وأهدافها الواقع الاجتماعي في اليمن، وتأخذ بعين الاعتبار العوامل الحقيقية التي تدفع اليمنيين إلى الإقبال على القات، ومعرفة أدوار القات في النشاطات الحياتية المهمة والخصائص الجوهرية التي دفعت بقيام هذا النبات إلى أداء هذه الأدوار. كما يجب ألا تُتجاهل مصالح الأفراد والجماعات وانعكاسات أي تدخل على المجتمعات المحلية. ولذلك من المهم أن تنفذ هذه الإستراتيجية خلال ثلاث مراحل: الأولى تتضمن برامج للبحث والدراسة العلمية المعمقة لواقع الظاهرة القاتية بأبعادها المختلفة. وتأتي المرحلة الثانية، مرحلة التوعية والتثقيف والاتصال، لتعمل على تكوين وعي وطني جماعي بالأضرار الاقتصادية والصحية والاجتماعية للقات، وأهمية الحد من انتشاره بالنسبة إلى الفرد والأسرة والمجتمع عامة. بالإضافة إلى التعريف بواقع الظاهرة القاتية على المستوى الدولي. أما المرحلة الثالثة فتتضمن بدائل عملية تتلاءم مع الواقع اليمني وإمكانات المؤسسات وقابلة للتنفيذ.
مجلة المعرفة العدد (79)
http://almarefh.org/news.php?action=show&id=3071