الأربعاء، 18 مايو 2011

ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي حول رداء الدولة في اليمن - جامعة حضرموت المكلا 2006


غطاء الرأس: ملاحظات أولية في المعنى الاجتماعي المتغير

د. عبدالله علي الزلب


1. المعاني المرتبطة بالهوية في بعدها الثقافي/الحضاري:
إن التحولات الدراماتيكية التي يخضع لها المجتمع اليمني منذ نهاية الستينات على جميع المستويات ، وما ترتب على ذلك من انتشار الأيديولوجيات الجديدة ودخول التكنولوجيا الحديثة وما تحمله من أنماط حياتية جديدة على المجتمع ، قد دفعت بالبعض إلى الاعتقاد بأن ذلك من شأنه أن يهدد الثقافة اليمنية التقليدية وتماسك المجتمع كما حدث في بعض البلدان العربية .
وفي ضوء تلك المتغيرات، التي تزامنت مع ارتفاع كبير في دخل الفرد، طرح تساؤل ملح حول الهوية وهي مسألة جوهرية في السياق اليمني. فلم يعد الانتماء إلى القبيلة أو العائلة أو المنطقة كافياً، وأصبحت الحاجة ملحة في الوقت الراهن إلى تحديد هوية الإنسان اليمني المعاصر إزاء الثقافات العربية والجنسيات الأخرى وفي اتجاه إيجابي. وأصبح اليمنيون مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالتوفيق بين القديم والجديد، ومواجهة تحديات التغيير، لأن رفض الجديد والبقاء في العزلة السابقة لم يكن بيدهم، فالعالم من حولهم يتدخل في اختيارات الإنسان اليمني وفي الكثير من تفاصيل حياته اليومية. فكانت مسألة تحديد تصورهم لثقافتهم التقليدية وتضمينها معاني جديدة أحد الطرق المتاحة لمواجهة تحديات التغيير.
في هذا الإطار يتنزل موضوع المعنى الاجتماعي للباس عموما وغطاء الرأس على وجه الخصوص. ولما كان ارتداء اللباس وتنوعه فعلاً متأصلاً في ثقافة المجتمع اليمني التقليدية ولا يشترك فيه مع ثقافات عربية أخرى، فإنه انتشر بعد ذلك بمعان جديدة لمواجهة تحديات التغيير. فلم يعد مثلا ارتداء الحجاب بالنسبة للمرأة اليوم يعبر عن هويتها اليمنية بقدر ما صار يحمل دلالات سياسية ودينية – مذهبية- أكثر من كونه مظهراً سلوكياً مميزاً لليمن. أما فيما يتعلق بملابس الرجال فانها إلى جانب احتفظت في بعض المناطق ولدى أوساط اجتماعية محددة بمعناها الاجتماعي ودلالاتها الثقافية القديمة، إلا انها في نفس الوقت اكتسبت معان جديدة، اجتماعية وسياسية وثقافية وحتى اقتصادية.. ويمكن الاستدلال في ذلك بما ذكرته الدكتوره رؤوفة حسن من التطور الحاصل بين الدلالة المكانية والدلالة الزمانية لغطاء الرأس في كل من  المدينة والريف وضربت مثال على ذلك قطعتين من اللباس "تأتي "الستارة"، كقطعة ملابس خاصة بنساء المدن الجبليات المتحضرات في الأربعينات، ثم التقليديات والفقيرات في التسعينات. كما تأتي العمامة البيضاء التي كانت رمزا للارستقراطية الحاكمة في الأربعينات، وصارت رداء يعبر عن وظيفة  القضاة التقليديين أو زي شعبي يلبسه العرسان في مناسبات الزواج منذ منتصف الثمانينات"[1].
هذا التطور لم ينحصر على المجال الاجتماعي الآنف الذكر لان المفاهيم المرتبطة بغطاء الوجه للنساء ثم غطاء الرأس للنساء شهدت تطورا آخر في المجالين السياسي والثقافي عكست التحولات السياسية والثقافية في المجتمع اليمني وعلى الصعيد الإقليمي والدولي. ومثال على ذلك الدلالات المرتبطة ب"الحجاب"، رغم اختلاف شكله وطريقة ارتداءه من مكان إلى آخر، كغطاء للرأس والوجه بالنسبة للنساء ففي فترة الخمسينات والستينات "المرتبطة بحركات التحرر الوطني من الاستعمار كانت حركة خلع الشيذر "الحجاب" للنساء، رمز لخلع التخلف والقيود وهضم الحقوق" ثم اكتسب المفهوم وفعل الارتداء للحجاب دلالات سياسية ودينية – مذهبية- مختلفة من مجتمع إلى آخر مع ظهور الحركات الإسلامية السياسية في العالم العربي. فأصبح "رمز للمقاومة للأنظمة السياسية المتعاونة مع الغرب وكرفض للشكل الذي قدمه الغرب لمعنى الحجاب كأداة قهر واضطهاد تحتاج إلى الخلاص منها"[2] في إطار بعض المجتمعات والأطر السياسية وشكل رمزا للهوية الدينية/ السياسية في مكان آخر ومناسبات أخرى.
وهكذا بدأ اللباس يحمل مضامين جديدة في الثقافة اليمنية المعاصرة. فهو فعل له مرجعيته الرمزية التي يمكن أن يستند إليها أي يمني من أية فئة أو شريحة اجتماعية لتعزيز هويته الثقافية. ويفيد اللباس كذكل كرمز في الحياة الاجتماعية في أنه يجسد أحد الحقائق المجردة العقلية في المجتمع ويجعلها ملموسة ومرئية. وبذلك فإنه يسهم في استدعاء شعور الانتماء إلى المجموعة الوطنية والمحافظة عليها. فالانتماء لقيم معينة يرمز بحد ذاته، بنظر الفرد وبنظر العناصر الفاعلة الأخرى، إلى مشاركته في هذه الجماعة أو تلك وفي هذا المجتمع أو ذاك[3]. 
إن اللجوء او العودة إلى ارتداء اللباس التقليدي والإقبال الكبير عليه في السنوات الأخيرة يأتي في إطار ارتفاع الطلب الاجتماعي للمعنى المفقود والبحث عن " هوية " تتوفر في إحياء وتجديد التقاليد والطقوس وخاصة عبر "التبني" الجماعي للحنين إلى الماضي في ظل تعدد المرجعيات الثقافية التي ظهرت في المجتمع اليمني ولمواجهة التحولات المتسارعة في نظام التراتب الاجتماعي المتأثرة بالتحولات السياسية والاقتصادية.
        وهذه المعاني الجديدة التي تتضمنها لغة غطاء الرأس لم تكن وليدة محدثات راهنة ومؤقتة، بل كانت نتيجة صيرورة تاريخية وتدخل عوامل عديدة، خارجية وداخلية ، سياسية واقتصادية وتاريخية من أهمها ارتباط انتشار ارتداء الملابس التقليدية والمحافظة عليها بما فيها أغطية الرأس في جميع مناطق اليمن في السنوات القليلة الماضية بمحاولات فرض أنماط ثقافية جديدة على الثقافة التقليدية اليمنية، ولذلك فإن دلالات اللباس التقليدي واستمراريته يمكن أن تفسر كموقف جماعي في مواجهة اليمنيين للتغيرات الجوهرية الحاصلة في هذه الفترة. فاليمنيون بمختلف إمكانياتهم المادية ومراكزهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية والقبلية يمكنهم اللجوء إلى اللباس كسلوك يرمز إلى معنى الانتماء للمجتمع والمشاركة الاجتماعية في وقت واحد. إن اليمني عندما يذهب إلى أي فضاء اجتماعي او تجمع داخل بلاده أو أي مكان في العالم ، إذا ما أتيح له ذلك ، فأنه يعبر عن هويته وانتماءه الاجتماعي للمجتمع الكبير او المحلي او للقبيلة او الشريحة الاجتماعية. فالخطاب السائد هنا هو خطاب الانتماء، أولا إلى هوية وطنية واحدة وثانيا إلى جماعة اجتماعية معينة سواء كانت فئة او شريحة و قبيلة .  

2. المعاني المرتبطة بالتمايز الاجتماعي في بعدها السوسيولوجي:
من السمات المميزة للثقافة اليمنية هي المدى العميق لتحديد الشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة وتمييزها وتصنيفها مكانياً، فالتمثل المادي للوضع الاجتماعي بالطبع يوجد في كل الثقافات، لكنه في اليمن سائد وبالغ الأهمية. ولذلك نجد أن اليمنيين متقبلون لفكرة تنظيم أنفسهم من حيث المكان وكذا العلاقات بين الأفراد والجماعات، وهناك وعي بعملية التفاعل الاجتماعي، أي أنهم يدركون مع من يتفاعلون مادياً وأين وكيف، ويتعودون منذ سن مبكرة على مبدأ تنظيم أنفسهم وسلوكياتهم الشخصية في الواقع العملي وفقا لمكانة كل شخص في المجتمع.  
        وقد كشف (جيرهولم) في دراسته لفضاءات السوق والمسجد والمفرج في مناخه أن التفاعل في السوق والمفرج يتجه نحو تعزيز التراتب الاجتماعي وإعادة إنتاجه. ويتم تجسيد نظام المكانة في كل مظاهر الحياة اليومية وبدرجة عالية من الاتساق بحيث يسلم بحتميته جدلاً بالرغم من وجود ملامح محدودة له [4].  
        وفي أحياء صنعاء القديمة يتم إسقاط التصورات المحلية للتراتب الاجتماعي بوضوح في تنظيم المدينة وخاصة في حجم المنازل ، حيث تعكس المنازل ذات الطوابق المتعددة النظام الاجتماعي الذي كان سائدا وما يزال، فالمنازل ذات الطوابق المتعددة التي تتجاوز الأربعة طوابق غالباً ما تكون للسادة أو القضاة أو كبار التجار، والمنازل ذات الأربعة والثلاثة طوابق للموظفين و"العرب" المنحدرون في الأساس من أصول قبلية، الذين يحتلون المراتب الوسطى في نظام التراتب الاجتماعي، ومادون الثلاثة الطوابق "لناقصي الأصل" من المزاينة والقشامين والخدم وغيرهم . وعليه فإن الاختلافات في الموقع التراتبي الاجتماعي تمثلها الاختلافات في درجة ارتفاع المنزل. وهنا تمارس الثقافة المشروعة، بتعبير بيير بورديو، نوعا من القمع الرمزي وتجبر الخدم والمزاينة على النظر إلى الأعلى تطلعاً نحو " أسيادهم ". فالرسالة التي تنقلها الشفرة المرئية هي أن أولئك الذين يسكنون في المنازل العالية والذين يجلسون في رأس المجلس - علاو المكان-  في جلسات القات، هم أولئك الذين يشغلون المراتب الأولى في نظام التراتب الاجتماعي. وفي السائد في ميكانيزمات الحراك الاجتماعي ان المغلوب والأقل مرتبة عادة ما يتطلع ويحاول جاهدا تقليد الغالب والأعلى مرتبة منه في الكثير من سلوكه ومظهره إذا ما سنحت له الفرصة كتعبير عن استحقاق له في الحراك الاجتماعي لتجاوز المرتبة الدنيا التي يحتلها والارتقاء إلى مرتبة أعلى في إطار المكانة الجديدة التي اكتسبها في المجتمع نتيجة لمتغيرات معينة. هذه الرؤية للعلاقة بين الشرائح والقوى الاجتماعية المختلفة عبر عنها العلامة ابن خلدون في إطار تحليله للصراعات الدائرة في عصره على الحكم بقوله: "أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده[5].
في هذا السياق تندرج دراسة غطاء الرأس وطرق ارتدائه واشكالها المتعددة والتي من شأنها أن توضح معنى الممارسة الإنسانية لليمني وتحيلنا إلى البنى العميقة للثقافة اليمنية. ولهذا الفعل الاجتماعي أهمية جوهرية بوصفه ثقافة حضرية وقبلية تقليدية في نفس الوقت، ساهم في الترميز الثقافي للباس اليمني في أبعاده الاجتماعية وخصوصيته الثقافية. فالالتزام بنوع محدد من أغطية الرأس وبطريقة مميزة لارتدائها والدقة التامة التي يتقيد بها الناس في هذا المظهر المادي للسلوك الانساني، يتضمن معاني عميقة في الثقافة اليمنية ويعبر بقوة عن نظام التراتب الاجتماعي السائد في المجتمع اليمني. ويمكن اعتماده كأحد مظاهر معايير التمايز الرمزية ذات البعد المادي الأكثر بروزاً في الفضاءات الاجتماعية المختلفة كالمسجد والسوق والمجلس القاتي، حيث يعتمد نوع الغطاء وشكله ولونه وطريقة ارتداءه على محددات خمس على الاقل هي:
1.     النوع الاجتماعي، (إمرأة/رجل ، أم / أب..)
2.     المكانة الاجتماعية،
3.     السن،
4.      المكانة العلمية او المستوى التعليمي،
5.     المنطقة الجغرافية ( ريف /مدينة ، صحراء/ جبل..الخ)
          وقد لاحظ فيبلن Veblen  أنه " عندما تتحول الأشياء المادية وترتفع إلى مستويات اعتبارية وتصبح رموزاً ثقافية للمكانة والجاه ويتم استثمارها كقيم مالية، فإن الإدراك بفطرية خصائصها وتقدير قيمتها يكون أكثر عمقاً "[6]. وهنا نجد أن غطاء الرأس باختلاف أنواعه واشكاله وألوانه، في مظهره المادي وتداعياته وتأثيراته، صار مادة مهمة تحمل قيما ثقافية ومادية كبيرة في إطار الثقافة اليمنية المعاصرة.  
ويتم تقويم غطاء الرأس حسب أنواعه المختلفة وألوانه وطريقة ارتداءه، ويرتبط هذا التقويم المادي بالتقويم الاجتماعي للمرتدي له ، فنوع غطاء الرأس، عمامة او صماطه او دسمان او كوفيه، يشكل أحد المظاهر الرمزية للانتماء الاجتماعي. وقد كان في حد ذاته في الماضي يعد مؤشراً للمكانة الاجتماعية والمستوى المادي للانسان. وقد ظهرت مؤخرا مواد استهلاكية أخرى تشترك مع اللباس في كونها تمثل تعبيرات اجتماعية، تجسد بدورها مظاهر التمايز الاجتماعي، كما تعتبر مؤشرات لمطامح اجتماعية في المجتمعات ذات التراتب الطبقي،  ونذكر من هذه المواد السيارات [7].
وكان يمكن أن يشكل الاكتساح الكبير للمواد المستوردة ، عاملاً أساسياً في التقليل من أهمية انتشار الملابس التقليدية ومنها أغطية الرأس، باعتبارها من وجهة نظر بعض الحداثيين عادة تقليدية قديمة و"معيقة " للتقدم ومتعارضة مع  أشكال الحداثة بالمعنى الغربي، لكن ما حدث كان عكس ذلك، وخلافا ما ذهبت إليه الدكتوره رؤوفة حسن شهد العقدين الأخيرين بالتحديد تطوراً وانتشارا مهما  في استعمال اللباس التقليدي على وجه العموم. ويرجع ذلك إلى تضمن هذا السلوك الاجتماعي رسائل رمزية ذات دلالة حول الوضع المالي للمستهلك ومكانته الاجتماعية والتي لا تظهر من خلال الممتلكات الأخرى وأشكال الإنفاق المختلفة.
إذن يقوم هذا الفعل الاجتماعي بدور الوسيط الإعلامي. وقد تشير الممتلكات الثمينة إلى معان عديدة عن مالكها، ولكن مهما بلغت مضامين أسلحة الكلاشينكوف والخناجر " الجنابي " وسيارات" الصالون " اليابانية... من ثراء وتعقيد ، إلا أن الرسالة التي تقوم بإيصالها محدودة في الزمان وفي المكان مقارنة بالملابس التقليدية عموما وبأغطية الرأس والوجه على وجه الخصوص. إن التغيرات الاقتصادية الحديثة خلقت شكوكاً حول المستوى الاقتصادي والثروة كمؤشر على المكانة الاجتماعية، وظل غطاء الرأس، سوسيولوجيا، مؤشراً جلياً وثابتا للمكانة الاجتماعية الحقيقية. وبما أن النفوذ والهيبة وقواعد السلوك هي مكاسب اجتماعية، فإنه  غالبا ما يسعى الأفراد، من خلال ارتدائهم لملابس معينة سواء عكست انتماءهم الاجتماعية وعبرت عن هويتهم الثقافية او كانت تقليدا لثقافة الشرائح او الفئات الاجتماعية الأعلى مرتبة من مراتبهم ، إلى زيادة رأسمالهم الرمزي بالعمل على تأكيد نفوذهم وتكريس التمايز عن الآخرين ومحاولة استثمار منافع النفوذ بمراكمتها من أجل ذاتها وكذلك من أجل المصالح الناشئة عنها. وإذا ما تبين للآخرين وجود مبالغة في الإنفاق على الملابس او ارتداء ما لايناسب الشخص اجتماعيا فإن ذلك ينعكس عليه سلباً، الأمر الذي يفقده مكانته داخل جماعته الاجتماعية ويقلل م هيبته ووجاهته باعتبار أنه يحاول أن يظهر بصورة غير حقيقية لإمكانياته المالية.
وهكذا نجد أن لغة الملابس تسهم بفاعلية في تكريس التمايز الاجتماعي، فتعمل على زيادة رأسمال الأغنياء الثقافي والمادي، وتعزز سيطرتهم، وتعمق، في نفس الوقت، فقر الفقراء، وبذلك تساهم هذه الثقافة بصور عديدة في إعادة إنتاج الثقافة السائدة.  
         وتتغير طريقة ارتداء اغطية الرأس وشكلها ونوعها أحيانا نتيجة لظروف معيّنة ، فالفقراء من القضاة والسادة مثلاً، لا يلبسون نفس الأغطية التي يضعها أغنياء نفس الشريحة او تلك التي أصبح يرتديها الصاعدون الجدد في سلم التراتب الاجتماعي من مشائخ القبائل أو كبار التجار أو المسئولين في الدولة. وهذا الأمر يؤكد التمشي القائل بإن المكانة المرموقة لم تعد تكتسب في الوقت الراهن بصفة آلية وفقاُ للنسب العائلي أو القرابة ، على الرغم أن الأصل والقرابة القوية ، فضلا عن التعليم وقرابة الزواج الصحيحة والأموال الموروثة والمكتسبة قد تكون عناصر أساسية للوصول إليها. فالناس عندما يسعون وراء مصالحهم وزيادة رأس مالهم المادي لا يهملون رأس المال الثقافي والاجتماعي. ورغم جهود الأغنياء الجدد من ناقصي الأصل ، كالجزارين والدباغين في المدن الصغيرة ومحاولاتهم زيادة رأس مالهم الثقافي، إلا أنهم لا يزالوا محصورين بمستواهم الاجتماعي الحالي مهما بلغوا من الثراء أو المستوى العلمي أو الورع .  وينعكس هذا ويتعزز أثناء المناسبات الاجتماعية في لباسهم التقليدي بصفة عامة. إن واقع لغة اللباس، في الكثير من المناطق مثل صنعاء القديمة وسيئون وغيرها، والتي تعكس النموذج التقليدي للتراتب الاجتماعي المبني على أساس النسب العائلي والمنصب، هذا الواقع لا يزال يرتبط ارتباطاً مباشراً بحقيقة أن النخب التقليدية من الشيوخ والسادة والقضاة لا تزال تصارع من أجل الاحتفاظ بترفعها واحتكارها للسلطة والتأثير.
من ناحية أخرى ، وفي الإطار الذي يجمع أفراد من نفس الشريحة أو الفئة ، أو من عائلة واحدة ، فان نوع غطاء الرأس وطريقة ارتداءه وشكله يعكس ، إلى حد ما ، نظام تراتب اجتماعي داخلي يرتكز على أساس السن ، وامتلاك الثروة ، وكذا المنصب السياسي. ويتضمن فعل ارتداء أغطية الرأس، من قبل النساء والرجال، مظاهر اجتماعية ورمزية، مثلها مثل جميع النشاطات الإنسانية العامة، إذ يحدث هذا الفعل تفاعلاً اجتماعياً علنياً من ناحية، وتواصلاً رمزياً مكثفاً من ناحية أخرى. ولهذا يمكن القول أن أغطية الرأس ما هي إلا تعبيرات اجتماعية للواقع الملموس وترتبط بصلة وثيقة بالعلاقات الاجتماعية وما يحدث داخلها من سلوكات وتفاعلات. كما تقوم بإعادة إنتاج الثقافة التقليدية.   



[1] د. رؤوفة حسن الشرقي، "الإطار المفاهيمي: غطاء الرأس في المجال العام بين الثقافي والديني"، ورقة خلفية قدمت للندوة الخاصة برداء الدولة، المكلا، 28-29 مارس 2006.
[2] نفس المرجع السابق
[3] Rocher G. , op.cit. , p. 114.
[4]  Gerholm, T. , op.cit. p.188 .
[5] مقدمة ابن خلدون، الفصل الثالث والعشرون، دار القلم ، بيروت، لبنان، 1978م ص 147
Veblen, T. , The Theory of the the Leisure Class : an Economic Study of Institutions , Unwin Books , London 1970 ,  p.79.
[7]   يعتبر امتلاك السيارات من الابعاد الملفتة للاهتمام التي تبين العلاقة بين استهلاك الكماليات والقيم الثقافية . وإن كانت السيارة إحدى علامات الاستهلاك الحديث إلا أنها تأخذ دلالات أخرى في تصور اليمني . فقد أخذ هذا النمط من الاستهلاك للسيارات أبعاداً اجتماعية ، فارتبط استهلاك نوع من السيارات اليابانية "الهيلوكس" برجال القبائل والمزارعين وسكان الريف عموماً . كما ارتبط استعمال السيارات من نوع " التويوتا" ، ذات الدفع بأربع عجلات ، الموصوفة في اليمن "بالصالون" بشيوخ القبائل والمسئولين الكبار في الدولة . فامتلاك هذا النوع من السيارات له دلالات عديدة ولذلك يسخر سكان المدينة من هذا النوع من الاستهلاك فيلقبون السيارة الصالون بليلى علوي نسبة إلى الممثلة المصرية  المعروفة ؟؟ ويتضمن هذا التشبيه معان تتعلق بالنزاهة والشرف .
     
- انظر في تفصيل ذلك مقالة لامبير بعنوان :
  Lambert, J., Consumation de Mass et tradition à Sana’a  CFEY , Sana’a hors les murs, p.  89